في ثاني الأيام ركب {الزير} للحرب والصدام وركبت معه {اليمامة}، وكان {الجرو} ركب أيضاً بالأبطال على رأس جيوش {بني مرة}، فصال وجال وطلب {الزير} للحرب والقتال، فبرزت إليه اليمامة، وقالت: {أنا أقاتلك اليوم من دون {المهلهل}. فلما شاهدته وتأملته أيقنت أنه أخوها، فنزلت عن ظهر الجواد وتقدمت إليه وألقت بنفسها عليه وقالت: {أهلاً وسهلا يا أخي ابن أبي وأمي فأنت والله ابن {كليب} من دون شك}.

Ad

كان {الجرو} تربى مع خاله {شاليش} فاعتقد أنه ابنه لأنه ولد بعد وفاة {كليب}، حين انتقلت أمه {الجليلة} بنت الأمير مرة للعيش مع أهلها عقب مقتل زوجها {كليب} وهناك أنجبته فتربى مع خاله.

قال الراوي: هنا تذكر {الجرو} أن قلبه لم يكن يميل إلى {جساس}، أو أحد من {بني مرة}، لا سيما أن قلبه حنّ إلى {اليمامة}، فقال لها سراً: {لقد صدقت بقولك هذا فاذهبي الآن وعند الصباح أتبعكم إلى الأوطان}، ثم توقف عن القتال ورجع إلى أمه في الحال، فأعلمته بالقصة من أولها إلى آخرها، وأوقفته على باطنها وظاهرها.

صبر {الجرو} إلى الليل، فركب إلى {المهلهل} وصحبه العبد {أبو شهوان}، وفي الطريق أراه العبد قصر أبيه وقبره المصفح بالذهب، فبكى وانتحب، ولدى وصوله إلى عمه، دخل عليه وقبل يديه وعينيه واجتمع مع من يلوذ به من أهله وأقاربه، فوقعوا عليه ورحبوا به، وكان {الزير} أفرح الخلق به، قال {الجرو}: {الحمد لله رب الكائنات الذي جمع شملنا بعد الشتات، فوالله العظيم رب موسى وإبراهيم، لا بد لي من قتل {جساس} وجعله مثلا بين الناس لأنه فجعني بأبي تاجي وفخري}.

 قال {الجرو} لعمه {الزير}: {الرأي عندي إني أغار عليكم نهار غد وآخذ نوقكم وجمالكم إلى خالي {جساس}، وأقول له: أتيت اليوم بأموالهم ومواشيهم، وغداً آتي إليك برأس {الزير}. ثم لأحاربك وتكون أنت واضع قربة من الدم تحت جانبك، فأطعنك بالرمح فألق بنفسك على الأرض، حتى تنشق القربة ويهرق الدم وأنا أصيح على {جساس}، وأقول له قد قتلت عدوك يا خال انزل إليه واقطع رأسه، وعندما يأتي إليك نقوم إليه بالعجل ونعدمه الحياة}.

ثم عاد {الجرو} إلى خاله {جساس} بالغنيمة، واتفق في تلك الليلة أن رأى {جساس} حلماً غريباً، فقد رأى نفسه وهو ربى جرواً وذهب، وكان يوده ويحبه، فلما انتهى وترعرع وتصابح مع سبع كاسر فألفه، إلى أن أغار السبع، يوماً، على مواشي {بني مرة} وهجم على نسائهم وأولادهم، وجعل يفترس كبارهم وصغارهم، وكان الذئب يساعد عليهم، فاغتاظ {جساس} من أفعال الأسد، فسلّ السيف وهجم عليه يريد قتله وإعدامه، فوثب عليه الذئب من ورائه ونهشه، فألقاه سريعاً على الأرض، فأفاق جساس مرعوباً من هذا الحلم.

ولما أحلّ الصباح ركب {الزير} يطلب الحرب والكفاح، وركب الأمير {جساس} وهو في قلق ووسواس، وكان {الجرو} وعده بهلاك القوم وقتل {المهلهل} في ذلك اليوم، ولما التقى الفريقان برز {الجرو} إلى ساحة الميدان فبرز إليه {المهلهل} فالتقاه {الجرو} وصال وجال وطعنه بالرمح طعنة كاذبة، فسحبها {المهلهل} من تحت إبطه فراحت خائبة، لكنه ألقى بنفسه على الأرض من فوق ظهر الحصان خديعة للفرسان ليظهر لهم أنه قد مات وحلت به الآفات.

ثم قال {الجرو}: {انزل يا خال واقطع رأس عدوك فقد قتلته وكفيتك شره}، فلما رأه يتخبط بدمه نزل عن ظهر القميرة وهو يظن أنه بلغ غاية مراده، ولما اقترب منه نهض {الزير} على قدميه وقبضه من لحيته وهجم أيضاً عليه ووضع الرمح بين كتفيه فعند ذلك علم {جساس} أنها حيلة تمت عليه وتأكد عنده صحة ذلك المنام.

حينها قال الجرو مخاطباً خاله:

أيا خال أقصر من ملامك

دنا أجلك وقد وافى حمامك

تقول أجرني يا ابن أختي

ألا يا جرو أعطنا زمانك

قتلت كليب ظلماً وعدوانا

تظنوا بأنني أسمع كلامك

تريد اليوم منا أن نجيرك

فهذا ما تشوفه في منامك

قال الراوي: ثم طعنه {الجرو} بالرمح في صدره فخرج يلمع من ظهره وتقدم إليه {الزير} بالسيف على رأسه، فقطعه ثم وضع فمه على عنقه، وجعل يمصه حتى شرب جميع دمه وكان الجرو ينهش في لحمه حتى بلغ مراده.

وهزم {بني مرة} تسلطن {الجرو} على كل القبائل نظير أبيه، وطاعته العباد وشاع ذكره في البلاد، وفرحت بنات كليب كل الفرح وزال عنهن الغم وخلعن عنهن ثياب السواد، وكان ذلك النهار عندهن من أعظم الأعياد، وكان {الجرو} تزوج ثلاث بنات وولد له ولدان، فسمى الأول {تغلب} والثاني {مالك}، ولما بلغا سن الرجولة، زوجهما بنتين شقيقتين من بنات الأمير {هلال}، حاكم حماة، وزوج أخته اليمامة للأمير مفلح ابن الأمير مدكور.

 وكبر أبناء {الجرو} وتزوجوا وأنجبوا أبناء، وحين تقدم به العمر استدعى ولده {مالك} وأوصاه بالرعية وأن يكون عادلاً في حكمه وأن يزوج ابنته إلى {الأوس} ابن أخيه، وبعد ذلك سار وحده في قطع القفار إلى أن وصل إلى أطلاله واجتمع بأهله وعياله.

{الأوس}... ومي

 أما الأمير {مالك} فاعتنى بتربية ابنته وابن أخيه، حتى كبرا وبلغا درجة الكمال، وكان {الأوس} يركب ظهور الخيل ويتعلم الفروسية، حتى صار من صناديد الرجال، وكانت ابنة عمه {مي} إحدى أجمل النساء، وكان {الأوس} يحبها محبة عظيمة، فلما شاع ذكرها في قبائل الأعراب توارد على أبيها الخطاب، وسمع بها {الصنديد بن الأكوع}، ابن عم الملك {تبع حسان}، فعشقها على السماع وكان من الملوك العظام فأرسل وزيره ليخطبها من أبيها.

 لما وصل الوزير وعلم {مالك} بالخبر قال: {والله هو نعم الصهر، وبه أنال الفخر على طول الدهر، غير أنه لأخفاك، أطال الله عمرك وبقاك، أن ابنتي مخطوبة لابن عمها {الأوس} ونحن الآن مباشرون بأمر العرس، فلا يمكنني أن أنقض الكتاب وهذا الذي يمنعني عن الإيجاب}.

ولما جاء الجواب إلى {الصنديد}، خرج عن دائرة الاعتدال، فغير زيه وتنكّر وركب جواده وسار إلى تلك الديار وحده، ولدى وصوله إلى مضارب الأمير {مالك} لم يجده، ولم يكن في الحي إلا النساء، فوقف على باب الخيمة ونادى: {هيا يا أصحاب البيت فقد أتاكم ضيف من أبعد مكان، وكانت مي داخل الخيام وحدها، فما ردت جواباً وما أبدت خطاباً، ولما أبطأت عليه الجواب وعرف أن الصيوان خال من الرجال أنشد يقول:

قال الفتى الغريب الذي شكا

ولي قلب من بين الجوانح ذات

أتيت قاصداً مالكاً في حاجة

ولي ساعة وأقف أنا في الباب

يا أهل هذا البيت أين أميركم

وأين مضى من الديار وغاب

 

قال الراوي: هام {الصنديد} بـ{مي} حباً، واحتال عليها حتى أخذها معه إلى دياره، ثم أخذ يضربها ويعذبها حين رفضت الزواج منه، فجاء ابن عمها {الأوس} لتخليصها من يد مغتصبيها.

فركب ظهر جواده وقطع القفار، ودموعه تجري على خديه كالأنهار، إلى أن وصل إلى واد عميق كثير الأشجار والوحوش والأحجار.

التقى ببعض الرعيان فتقدم إلى كبيرهم وكان اسمه {مرجان} وتحدث معه، فقال له {مرجان}: {اعلم أنه من عشرة أيام سبي أميرنا {الصنديد} ابنة اسمها {مي} لا يوجد أجمل منها في نساء هذا الحي، فأراد أن يتزوجها فامتنعت عنه، فلم تمل إليه، فقيدها بقيود من حديد وهو كل يوم يعذبها العذاب الشديد}.

 فلما سمع {الأوس} هذا الكلام استبشر ببلوغ المرام، ونزل عن ظهر الحصان وقبل العبد مرجان ووعده بالجميل والإحسان، فبينما هو بالحديث والكلام، وإذا بسعد ابن أخت {الصنديد} قد أشرف في ذلك الوقت ليتفقد المراعي، فنظر {الأوس}، فاستغربه، فسأل بعض العبيد فقال: {هذا ابن عم الصبية {مي} التي عند خالك {الصنديد} جاء ليكشف أخبارها ويرجع بها إلى ديارها}، فلما سمع هذا الكلام رجع إلى عند خاله وأعلمه بما سمع ورأى.

فلما علم {الصنديد} ذهب وقصد الأوس حتى التقى به وانطبق عليه كليث الآكام، وأخذ معه في القتال والكفاح، ولم تكن إلا ساعة حتى أثخنه بالجراح، فولى وطلب لنفسه الهرب، فتبعه {الأوس} مثل السرحان حتى وصل إلى الصيوان واحتمى عند النسوان.

قال الراوي: ولما اختفى {الصنديد} في خيمة الحريم، عايرته النساء بالهروب من أمام {الأوس}، فخاف {الصنديد} وقال لزوجته: {أعطه الصبية}، ففعلت.

قال الراوي: وعند الصباح أركب {مي} في هودج وسار معه جماعة من العبيد وتوجه قاصداً دياره، ولما اقترب من بلاده أرسل يبشر عمه الأمير {مالك} بقدومه، وشاع الخبر في الحي، فخرجت النساء والبنات وأكابر السادات، ولما اجتمعوا ببعضهم البعض نزل الأمير {مالك} فسلم على {الأوس} وابنته، وشكر ابن أخيه على أفعاله، ثم زفوا {الأوس} على ابنة عمه {مي}، فكانت ليلة من أعظم الليالي حضرها جمهور من السادات والموالي، فزادت أفراح {الأوس} بتلك العروس، وحظى بذلك الحسن والجمال، وعاش معها بأرغد عيش وأحسن حال.

نهاية {الزير}

وأما ما كان من البطل الهمام الشعبي صاحب الذكر الشهير {سالم الزير} فأخناه الدهر وضعفت قواه، مع ذلك واظب على أكل الطعام وشرب المدام، وكان لا ينام إلا وهو لابس عدة الحرب والصدام، وما زال على تلك الحال، حتى برزت له أسنان وصار عقله مثل عقل الولد، وتولت بنات أخيه خدمته ومداواته، فاجتمع يوماً بـ{الجرو} وقال له: {يا ابن أخي قد ضاقت أخلاقي من الوحدة والانفراد فأريد منك أن ترسلني مع بعض الأتباع للتنزه في البلاد}، فأجابه إلى ما طلب وأركبه في هودج وأعطاه عبدين وكل ما يحتاج إليه من لوازم السفر، فودعه {المهلهل}.

 وما زال {المهلهل} يجول حتى اقترب من بلاد الصعيد، وكان العبدان تعبا من مشقة الطريق، وهما يلاقيان من التعب أشد الضيق، فصمما على قتله وإعدامه بالكلية، وإنما يقولان لأهله قد أدركته المنية، فعرف {الزير} منهما، فقال: {قد دنا حمامي وليس إلا القبر أمامي، فإذا أدركتني منيتي أريد منكما أن تبلغا أهلي وصيتي}. قالا: {ما هي وصيتك؟} فعاهدهما على حفظها وتأييدها، فحلفا له بأعظم الأقسام بأنهما يبلغونها بالكمال والتمام فقال: {إذا وصلتم الحي فاقريا أهلي مني السلام وأنشدوهم هذا البيت وقولا لهم إني في القبر قد اختفيت:

من مبلغ الأقوام أن مهلهلا

لله دركما ودر أبيكما     

وكرره عليهما البيتين حتى حفظاهما، ولما دخل الليل ذبحاه ودفناه تحت التراب ورجعا إلى ديارهما، ودخلا على سيدهما {الجرو} وأعلماه بموت عمه {الزير}، فبكى بكاء شديداً هو ومن حضر، ثم اقترب العبدان من الجرو وأنشداه البيت المذكور.

فلما سمع {الجرو} هذا استغربه إذ لا معنى له، فاستدعى أخته {اليمامة} وكانت إحدى أذكى نساء العرب، وأنشدها ذلك البيت فلطمت على وجهها وبكت قالت: إن عمي لا يقول أبياتاً ناقصة بل أراد أن يقول:

من مبلغ الأقوام أن مهلهلا

أضحى قتيلاً بالفلاة مجندلا

لله دركما ودر أبيكما

لا يبرح العبدان حتى يقتلا

قبضا على العبدين وألقياهما تحت العذاب والضرب الشديد، إلى أن أقرا بأنهما قتلا {الزير} ودفناه، فقتلهما {الجرو} في الحال، وهكذا انتهت حياة {الزير} وقد أخذ ثأره في حياته وبعد مماته.

 وبعد وفاة {الزير} وضعت امرأة {الأوس} غلاماً فسموه عامراً، وعندما بلغ سن الرجولية تزوج بامرأة من أشراف العرب، فولدت له في الليلة نفسها التي مات فيها جده {الجرو}، فدعاه {هلال} وهو جد بني هلال، ولما كبر الأمير {هلال} تزوج بامرأة ذات حسن وجمال فولدت له غلاماً دعاه {المنذر}. واتفق أن {هلالا} زار مكة في بعض السنين في أربعمئة فارس كرار، وكان وقتئذ ظهور النبي المختار، وعند وصوله ضرب الخيام وطلب هو ورجاله حول البيت الحرام، ثم تشرف بمقابلة النبي وقبله بين عينيه، فأمره النبي أن ينزل في {وادي العباس}، وكان النبي (ص) في تلك الأيام يحارب بعض العشائر، فعاونه الأمير {هلال}، وأمده بالعساكر وقاتل معه القوم في ذلك اليوم، وكانت {فاطمة الزهراء} راكبة على هودجها، فلما رأت هول القتال زجرت جملها لتخرج عن مشاهدة القتال، فشردتها في البراري والفلوات، وعند رجوعها دعت على الذي كان السبب في البلاء والشتات، فقال لها أبوها: {ادعي لهم بالانتصار فإنهم بنو هلال الأخيار وهم لنا جملة الأحباب والأنصار}، فنفذت فيهم دعوتها بالنصر على طول الدهر.

الأخيرة