جميلات ... في ملفات القضايا (14)

نشر في 12-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 12-07-2014 | 00:02
No Image Caption
لم ترض داليا بالحياة الكريمة مع زوجها محمود الذي ضحى بالعائلة لأجل الارتباط بمن اختارها قلبه، فيكون الجزاء خيانة داليا له مع الجار الثري، مفضلة المال على الحب الحلال. لكن الأيام لم تترك تلك اللعوب، فتجرعت من الكأس نفسها لتجد زوجها الجديد يخونها، فتسقط في بئر الانتقام وتخطو بثبات إلى حبل المشنقة، حيث تجرعت مرارة الخسارة واسترجعت في ألم وحسرة لحظات السعادة التي عاشتها مع محمود، والتي فرطت فيها بكل سهولة.
كانت ليلة لا ينساها الزوجان، ربما لأنها كانت الأخيرة... أصرت داليا على الطلاق، سلكت الطرق والأساليب كافة لتقتلع أي ذكرى طيبة لها في قلب زوجها محمود، الذي حاول بشتى السبل إقناع زوجته بالبقاء في قفص الزوجية. قدم لها التنازلات تباعاً، اخترع وسائل عدة لاسترضائها، ولفك لغز هذه المرأة التي أضاء لها أصابعه شموعاً، فإذا بها تحاول أن تحرقه وأن تغدر به، وتنفصل عنه رغم ما كان بينهما من حب ضرب به الناس الأمثال، لم تسأله إلا الرحيل.

لم تستجب داليا لتوسلات محمود في تلك الليلة المشؤومة، يبدو أنها أرادت التصعيد، واللعب بآخر بطاقة، وإنهاء علاقتهما بأي شكل وأسرع وقت، وقالت له في تلك الليلة التي لا ينساها محمود:

•• لقد حرمتُ نفسي عليك من هذه اللحظة، لا تنتظر مني أن أقدم، أو أسمح لك بالاقتراب مني، لن أطيعك، ولن أخرج من حجرتي إذا تواجدنا في هذا البيت معاً. إن لم تطلقني خلال أسبوع من الليلة سأعتبر موقفك إعلان حرب، سأرد عليه بما يجعلك تندم وتعيش من بعدي أسوأ أيام عمرك.

ظل محمود صامتاً. أدرك أن وقت المفاوضات قد انتهى ولن تفلح هداياه، ومحاولاته في أن تسترد زوجته عقلها، وتستعيد رشدها، وتفيق من غفوتها. ألقى بأسلحته مرة واحدة في ساحة المعركة، وراح يفاجئ داليا بما لم تكن تتوقعه:

• الطلاق سيجعل لك حقوقاً، وامرأة مثلك لا تستحق جنيها واحداً. تعرفين أنني لم أبخل عليك بكل ما أملك، لكن من الليلة أصبحت خارج حساباتي كزوجة، وغير مرغوب فيك كامرأة، والخلع سيرتب لي حقوقاً تبخلين بها رغم أنك الباحثة عن الخراب. تريدين كل شيء مقابل لا شيء، المحكمة هي الوحيدة التي يمكن أن تفرض كلمتها عليك وعليّ وما دمنا سنلجأ إلى المحاكم، لم يعد لك في هذا المكان وجود وعليك بالرحيل الآن.

نظرت إليه داليا في دهشة تساءلت بينها وبين نفسها من أين جاءته هذه القوة؟ لقد عاش معها سنوات عدة خاتماً في أصبعها، أسيراً في مملكتها، وخادماً يلبي طلباتها، فكيف تحول العصفور الرقيق إلى أسد جريح؟ لم تجتهد بحثاً عن إجابات، ولم تجهد نفسها خوفاً على أعصابها، وهي التي عاشت لأجل المتعة والحرية وعشق الحياة، تعرف متى تنسحب عندما تلوح بشائر الهزيمة. حزمت حقائبها وقبل أن تغلق الباب خلفها نظرت خلفها لتجد محمود يشعل سيجارة ويتنهد بحرقة، قالت له في غضب:

•سوف أذهب إلى المحكمة... وتحمل النتائج.

ندم متأخر

قام محمود ودفع الباب وراءها بكل قوة، عاد إلى مقعده والدماء تغلي في عروقه كيف بدأت داليا حياتها الزوجية معه وكأنها ملاك فوق الأرض، وكيف تنهيها الآن وكأنها شيطان رجيم. استرجع البدايات عندما تزوجها رغم معارضة أهله، كان واثقاً من أنها تحبه بجنون، وكان أهله يعترضون على أسلوبها في الحياة والأسرة التي تنتمي إليها، وهي أسرة انتهت الزيجات كلها فيها بالانفصال. لم يعبأ بنصائح صديق عمره الذي حذره من أن يرتبط بإنسانة متحررة تروج لجمالها بالفساتين الجريئة بينما هو متدين، ومن أسرة لا تبدي فيها النساء زينتهن إلا لمن أباح الشرع.

 تذكر محمود والندم يعصر قلبه كل من حذره أو نصحه أو دق له أجراس الخطر قبل أن يعقد قرانه على داليا، وتذكر أيضاً كيف وقف أمام الجميع معارضاً، مدافعاً عن فتاة أحلامه ملتمساً لها الأعذار والمبررات، فكان يرد بأنه ليس من العدل أن يأخذها بذنب أسرتها، وليس من العدل أن نحاسبها على جمالها وأنوثتها فما زالت شابة صغيرة ستهذبها الأيام.

ولم تخذله داليا، كانت حياته معها أكبر دليل على أنه كان صائباً، حتى كانت الليلة الموعودة. أصيبت داليا وهي في النادي بآلام مبرحة في جانبها، نقلوها إلى المستشفى، اتصلوا به فطار إليها كالمجنون. أجروا لها جراحة استئصال الزائدة الدودية، بينما هو يغادر المستشفى في الواحدة صباحاً سلموه حقيبة يدها وهاتفها وبعض المتعلقات، حبس نفسه في بيته حزيناً يدعو لها بالشفاء. كان يبكي وهو يقلب في هاتفها باحثاً عن رقم صديقة عمرها ليرجوها أن تكون إلى جوار داليا في المستشفي، ففوجئ بصورة رجل غريب. تذكر ملامحه بسهولة، إنه جارهم في العمارة وصاحب معرض السيارات الذي اشترت منه داليا سيارتها.

استشاط محمود غضباً، انتظر زوجته حتى شفيت وعادت إلى بيته، سألها عن صاحب الصورة، ارتبكت وتوترت وثارت في وجه محمود، للمرة الأولى لا تجد مبرراً لصورة الرجل في هاتفها الخاص. اتهمت محمود بأنه يشك في سلوكها ويعبث بأشيائها الخاصة ويتهمها بالخيانة، وحينما تدخل أهله للصلح بينهما بررت الصورة بأنها التقطتها يوم كانت تجرب الموبايل الجديد الذي اشترته في يوم شراء السيارة، منذ هذه الليلة والحياة صارت جحيماً داخل البيت، رغم أن محمود تظاهر بالاقتناع ببراءة زوجته لكنها كانت واثقة من أنها صارت تحت رقابة شديدة، كانت تتعلل بأن الحياة لا يمكن أن تستمر بينها وبين محمود بعدما تسربت إليه الشكوك، وفشل محمود في أن يزيل هذا الإحساس.

في تلك الليلة انتهى كل شيء، وكان على محمود أن يعيد حساباته، ويجهز نفسه لحياة جديدة خرجت منها داليا رغماً عنه، لم يتحمل الشك ولم تنجح هي في تبديده، فوصلت الحياة بينهما إلى منتهاها، ولم يعد هناك إلا الفراق، لكنه لم يكن بالسهولة التي توقعها محمود.

مكيدة

وضع المحامون خطة محكمة لتحصل داليا على الطلاق، كانت مكيدة تعتمد على أساليب ملتوية فليس لديها سبب يقنع المحكمة بموقفها، وفي أول جلسة فوجئ محمود بأنها تتهمه بالاعتداء عليها أمام باب النادي، وأنه ضربها وأصابها بجروح بالغة، وكاد محمود يفقد عقله حينما تقدم شهود داليا لتأكيد الواقعة أمام المحكمة، جاره صاحب معرض السيارات ورجل آخر لا يعرفه ربما كان صديق الشاهد الأول.

وقال محمود وسط ذهوله لهيئة المحكمة:

•• يمكنني أن أثبت أن الشهادة الطبية مزورة، وأن الشاهد كذاب وأن له قصة في حياة زوجتي. لكن كل هذا لم يعد له فائدة، لأنني أعلن أمام المحكمة أن داليا طالق، فهي لا تستحق أن تحمل اسمي بعد اليوم.

بعد ستة أشهر عادت داليا إلى العمارة لكن كزوجة لصاحب معرض السيارات، وضرب الجيران كفاً بكف. كان المشهد مثيراً حينما تصنع الصدفة لقاء بين الثلاثة في مدخل العمارة أو داخل المصعد محمود وداليا وزوجها حسام، المرأة التي كانت حلالاً لمحمود صارت محرمة عليه، وحلالاً لحسام. نساء العمارة كن يستغربن كيف تضع داليا عينيها في عيني محمود، ورجال العمارة كانوا مندهشين من الابتسامة الصفراء على وجه محمود، وإن كانوا يشعرون بالمرارة التي تملأ قلبه.

ويبدو أن محمود أراد أن يستريح ويريح فباع الشقة، اشترى أخرى في مدينة {العبور}، إحدى المدن الجديدة البعيدة، وقطع علاقته بالماضي بكل ما فيه من حلو ومر. عاش حياته الجديدة على الوتيرة نفسها، لا يخرج من بيته إلا في التاسعة صباحاً متوجهاً إلى عمله، وعائداً إلى بيته مع غروب الشمس ويستيقظ في الرابعة ليصلي الفجر ثم يفتح المصحف ليقرأ ما تيسر له. كان الرضا شعاره، مكتفياً بأقل القليل، باحثاً عن راحة البال. الأيام تمضي، الشمس تشرق وتغرب، عام يرحل وآخر يصل، ومحمود يعيش وحيداً في مدينة العبور، لا يختلط بأحد ولا يسمح للآخرين بالاختلاط به.

انتقام القدر

بعد 11 عاما فوجئ محمود على شاشة إحدى الفضائيات بالمذيع يستضيف الزوجة، التي ذبحت زوجها بعدما ضبطته متلبساً بخيانتها على فراش الزوجية. صعقته المفاجأة وقف ثم جلس ثم وقف وهو يصيح: {داليا... مش معقول}، كانت ترتدي ملابس السجن؛ ذليلة، منكسرة، لا تقوى على الكلام بعدما أحيلت إلى الجنايات. أسرع محمود إلى المحكمة بعدما عرف بموعد الجلسة، جلس في الصف الأخير لمحته داليا، صرخت بأعلى صوتها تطلب من رئيس المحكمة إخراج محمود من القاعة، لأن وجوده يعد عقاباً لها قبل أن تصدر المحكمة حكمها، ورغم تجاهل القاضي لندائها فقد انسحب محمود إلى خارج القاعة في هدوء.

خرجت أنا خلفه بعدما شعرت بحسي الصحافي أن وراء هذا الرجل سراً مثيراً سألته: لماذا خرج من القاعة من دون أن تأمره المحكمة بالخروج؟ قال في نبرات حزينة:

•• كنت أظن أن الماضي قد مات، لكن ما إن رأيت هذه المرأة حتى عادت إليّ الحياة، لست شامتاً فيها، لكن إيماني بالله وصل ذروته وأنا أراها داخل القفص، وبدأ يحكي لي قصته مع أول وآخر حب في حياته. روى التفاصيل كافة، لم يغفل شاردة إلا وذكرها. كان يتذكر والألم يعصر معالم وجه. كان يعاني من آثار الحب التي لم تستطع أن تنسيه إياه السنوات المتعاقبة.

لقاء أخير

بالصدفة البحتة قابلت محمود مجدداً في أحد المراكز التجارية الكبرى، وبادر يذكرني بنفسه بعدما رأني أدقق في ملامحه. فوراً، سألته إن كان حكم الإعدام تم تنفيذه في مطلقته، هز رأسه في تأثر بالغ وهمس لي قائلاً: {يبدو أن السجن هدّ حيلها، وانتظار الإعدام أصابها باكتئاب شديد، فساءت صحتها وتدهورت بشكل خطير، فتم نقلها إلى مستشفى السجن، وحينما سألوها هناك إن كانت تريد رؤية أحد من أهلها اختارتني ومنحتهم عنواني. كنت قد تزوجت وقصصت على زوجتي الجديدة حكايتي مع داليا من الألف إلى الياء.

 الحقيقة أن زوجتي الجديدة لم تمانع في ذهابي لزيارة داليا، بل أصرت على أن تذهب معي وحملت لها زهوراً في غاية الرقة، وفوجئت في المستشفى بحالة داليا المرعبة، كانت بقايا امرأة جبارة: الوجه شاحب، والعينان زائغتان، والجسد الذي كانت تتباهى به صار عظماً على لحم، الصوت الذي كان يجلجل في مشاحناتها معي صار واهناً، هامساً، متقطعاً. لم تنتبه لوجود امرأة إلى جواري ولم تسألني من هي، نظرت إليّ طويلاً وكنت أقاوم دموعي، ثم همست ليّ قائلة: {سامحني يا محمود، السجن كان فرصة العمر علشان أراجع نفسي، وعلشان ضميري يصحى، كان المفروض أراجع نفسي من زمان لكن الظاهر في بين الناس صنف لازم ياخد فوق دماغه علشان يعرف غلطته، وضميره يستيقظ وأنا من الصنف ده للأسف}.

لم أعرف كيف أرد عليها، لم تغادر الكلمات شفتي، كل ما استطعته هو سؤالها إن كانت تحتاج إلى أي شيء من خارج السجن أو أدوية لا تكون متوافرة في المستشفى, فهمست لي وهي شاردة: {تصدق أن ماحدش زارني من أهلي خالص، كنت عارفة إنك الوحيد اللي هيجي لو احتجت لك، المهم عايزة حاجة واحدة تعملها من قلبك، سامحني يا محمود، وحاجة تانية أرجوك توافق عليها}.

حاضر... قولي كل اللي في نفسك.

لما ينفذوا حكم الإعدام تبقى تأخدني في المقابر بتاعتكم، اكتب لهم في إدارة السجن عنوانك وتليفونك علشان خاطر العيش والملح يا محمود.

واستطرد {محمود} قائلاً: {فجأة التفتت داليا ناحية زوجتى وسألتني: مين الهانم دي يا محمود؟ قلت لها على الفور إنها زوجتي نيرمين. لكن داليا لم تعلق وإنما هزت رأسها في انكسار ثم دعت لنا بالسعادة من دون أن يفوتها وهي في عز محنتها أن تفحص زوجتي من شعر رأسها وحتى حذائها، وجاء طبيب من إدارة المستشفى ليبلغنا بانتهاء الزيارة، هذه كانت المرة الأخيرة التي رأيتها فيها، فلم أرها بعد ذلك أبداً}.

كنت استمع إلى محمود بعدما جلسنا نرتشف الشاي في مقهى في المركز التجاري الكبير. كان يحكي لي ما حققه من نجاح كبير في عمله بعد انفصاله عن داليا، وكيف تحول إلى شخصية عامة يشار إليها بالبنان، وأنه يشعر بالسعادة الكاملة مع زوجته الجديدة، التي يعتبرها {وش السعد} عليه، وكيف استطاعت أن تعوضه عن الأيام التي عاشها بعد الانفصال عن داليا، وكيف كانت أجمل هدية عوضه القدر بها على مرارة الأيام، كان سعيداً وهذا الأهم لكل إنسان.

قبل انصرافي سألته: {لم تجب عن سؤالي... هل تم تنفيذ حكم الإعدام فيها أم لا؟}، بادرني الرجل قائلاً: {حكم الإعدام لم ينفذ، لأن داليا ماتت في المستشفى بعد زيارتي لها بثلاثة أيام. الآن عادت لي، لكن في مقابر الأسرة}.

back to top