أمريكا مطلع الشتاء (1)
الفارق بين زمنيْ لندن وواشنطن ساعاتٌ خمس، بدأت الشوط في سفري أول النهار، وأنهيته والزمن ثابتٌ في أوله. أشْكلَ عليّ الدواء الذي آخذه في المساء، لأن المساء رجع فصار نهاراً في عقارب الساعة، حين وصلت واشنطن. دبّ فيّ النعاس الثقيل في الساعة السابعة. التهمت الدواء على مضض واستسلمت للنوم. في الثانية بعد منتصف الليل استيقظت وكأني أتعامل مع صباحٍ ناشط. وانتظرت حتى الساعة السابعة والنصف من أجل المشاركة في (مؤتمر بغداد مهد الثقافة والحضارة 1013-2013)، الذي نظمه (المركز الثقافي العراقي) و(معهد البحث الأميركي الأكاديمي في الشأن العراقي) في مدينة واشنطن.شارك في المؤتمر عدد من أساتذة الجامعات الأميركية بلغ 18 محاضراً، بينهم أربعة من الأساتذة العرب، وأنا خامسهم غير الأكاديمي. تتالت المحاضرات الموجزة ليومين، كنت فيهما حريصاً على يقظة تلميذٍ مأخوذٍ بالإحاطة الرائعة التي أملاها عليَّ أساتذة معنيون بمدينتي التي تعصف بها الأقدار العمياء طيلة سنواتها الحاضرة.
كنت أعجب بإعجاب من هذا العدد من العقول في هذه القارة النائية، وهي تَشغل سنوات عمرها بكل تفصيلة تمتعت بها، أو تعرّضت لها، بغداد. العاصمة التي لم تألف يوماً والياً عليها، أو حاكماً لها، ينتسب إليها انتساب الآباء أو الأبناء. لقد أخذتها القرى البدوية من خناقها طيلة سنوات الهَوس القومي، ثم استسلم خناقُها المخذول لقبضة القرى الريفية في سنوات الهَوس الطائفي التالية. وحدهم الأساتذة المعنيون بحرمة التاريخ في المدن الغريبة النائية من حنا عليها هذا الحنو الاحتفائي.في يومين متتاليين 15-16 نوفمبر (تشرين الثاني) تشكلت أمامي بانوراما بالغة الوضوح والدقة لبغداد، منذ تأسيسها على يد المنصور حتى أيامها الحزينة البائسة اليوم. ولعل أبلغ أوجهها هو الوجه الحضاري الذي تمتع فيه نشاطُها العقلي والروحي بالخلاف والحوار، في الدين والفلسفة والأدب وخفة الدم حين يتبغدد.اختصرتُ في حديثي، حين جاء دوري، على الشعر الحديث في مرحلتيْ الروّاد والستينيين. وعلى ما تعرض له هذا الشعر من تأثير سياسي ذي سمة عقائدية لم تكن لصالحه. ثم ذهبتُ إلى نموذجين استثنائيين من الجيلين شكلا، بالنسبة لي، رمزين كبحا فيهما أيَّ رغبة للاستجابة لهذا الإغواء السياسي العقائدي. ولكن هذا الكبح لم يتحقق لديهما إلا عبر يوتوبيا حلمية بالغة الفردية، وبالغة العزلة، التي تحققت في الغرق في الخمرة. الشاعران هما حسن مردان من جيل الروّاد، وعبد الأمير الحصيري من الجيل الستيني.استعدت مطلعاً ممتازاً لقصيدة قرأها الشاعر النجفي السيد مصطفى جمال الدين في مربد 1969، يقول فيها:بغداد ما اشتبكتْ عليك الأعصرُ إلا ذوتْ، ووريقُ عمرك أخضرُمرّت بك الدنيا وصبحك مشمسٌودجتْ عليك ووجه ليلك مقمرُوقستْ عليك الحادثات فراعهاأن احتمالَك من أذاها أكبرُوقرنت هذا الضربَ من الحلم الشعري بالحلم الفني الذي تجسد في عمل جواد سليم (نصب الحرية) القائم في ساحة التحرير في قلب بغداد. كلاهما حلمٌ يتحرك وفق املاءات العقيدة أو اليوتوبيا، ويتعارض مع املاءات التاريخ، والواقع. فنُصب الحرية في ثيماته الثلاث: الماضي البائد المعتم بمشاهد الجور والظلم وتزاحم القتلى والشهداء، ثم حدث الثورة التي قادها العسكر في تموز 1958، ثم المستقبل الذي يليها المضاء بالمسرّة والغنى والخصب والاستقرار. حكمة العقل المنصف مضطرةٌ لقلب مسار ثيمات النُصب من أجل أن تكون له مصداقية تتوافق مع التاريخ والواقع. فالقتلى والشهداء والخراب مظاهر لم تُطرّز مرحلة ما قبل الثورة، بل هي حصيلة ما بعد الثورة بامتياز.الشاعران حسين مردان وعبد الأمير الحصيري لم يكونا موهبتين شعريتين كبيرتين، لكنهما بمناعتهما الكبيرة ضد وهم الآمال التي أملته الأيديولوجيا حققا نموذج (الشعر/ الشاعر)، حيث لا فاصل بين الاثنين. نموذج حقق القصيدة الحيّة التي تمشي على قدمين، وسط احتفاء الشارع البغدادي.