حفظ الدارسون العرب أسماء الأماكن المجهولة في العصر الجاهلي أكثر مما حفظوا أسماء الأماكن التي عاشوا فيها، فما السر في ذلك؟
لِخَولة َ أطْلالٌ بِبُرقَة ِ ثَهمَدِتلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِوُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُميَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَلَّدِفتلك هي "برقةُ ثهمد"، أين هي الآن... وأين تقع؟تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَـاتِهَاوَقِـيْعَانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِوالشاعر هنا واقعي يصف المكان كأنه يلتقط صورته بالكاميرا.والأماكن لعرب رُحّل يهجرونها كلما عنَّ لهم ذلك، أو كلما اضطرتهم ظروفهم لفعل ذلك، وكانت "المحبوبة" تخضع لهذه الظروف القاهرة، والحقيقة أنهم رُحَّل يطلبون مواطن الغيث، فإذا صادفوا مكاناً مناسباً طرحوا خيامهم، وهنا الخيام كالمواقع في افتتاحيات القصائد، ومهما "تفلسف" أساتذة النقد في تفسير هذه الظاهرة، فالظاهرة لا يمكن فصلها عن أساسها المادي، وعن حقيقة كونهم "رُحّلا". وتتراوح هذه الافتتاحيات بين نوعين: الافتتاحيات الصادقة المفعمة بالشعور، والافتتاحيات الشكلية التي اضطر إليها الشاعر اضطراراً امتثالاً للتقليد، ولكنه أصبح تقليداً لا فكاك منه! ولم تتحرر منه القصيدة العربية في العصر الحديث، وقد وقف الباحثون مطولاً أمام القصيدة الأندلسية لأنها فارقت ذلك التقليد منذ ذلك الوقت المبكر.والعصر الجاهلي كلُّه مجهول، وقد بذل الباحثون جهوداً مشكورة لرسم خريطة لتلك المواقع التي ورد ذكرها في افتتاحيات القصائد الجاهلية، ولو لم تسجل لنا تلك الافتتاحيات أسماء تلك المواقع، لبقينا على جهلنا بآخر أسماء لمواقع يمكن أن نتعرف إليها من تاريخ ما قبل الإسلام، أي التاريخ الجاهلي.وهنا نأتي إلى "المعضلة" الكبرى في ذلك التاريخ... متى سُجل اسم "عرب" في الآثار المتبقية؟لو اهتدينا إلى حقيقة "تسجيل" اسم "عرب" في تلك الآثار لانحلت المشكلة، ولكن هذه المشكلة باقية ما بقي التاريخ، وعلى أولوية الشعر الجاهلي في المناهج، وتقديمه في المواد المدرسية، فإنه لم تخلق "ثقافة آثار" في عقليتنا العربية. ومنذ سنين يعمل صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز، بوصفه مسؤولاً عن الآثار في المملكة العربية السعودية، على خلق هذه العقلية المنشودة.ويمكن القول إن اليابانيين لهم "ثقافة آثار" وإنهم يصورونها كلما سنحت لهم الفرصة بذلك، بل إنهم يقومون برحلاتهم أصلاً بدافع من ثقافة الآثار التي لديهم.وكانت لدى المسلمين الأوائل "ثقافة آثار"، فمن يقرأ القرآن الكريم، يجد قصصا تاريخية عن عاد وثمود وقصة يوسف وتآمر إخوته عليه من أجل إخفائه عن أبيه الذي يفضله عليهم، تسعى إلى خلق ثقافة آثار لدى الفرد المسلم، وعلينا العمل الجاد من أجل تعميق تلك الثقافة وتفعيلها.ففي القرآن الكريم، قصص تاريخية، وإحساس بالتاريخ أكثر وأعمق مما قلنا، وينبغي وضع برنامج للشعر الجاهلي الهدف منه خلق "ثقافة الآثار" لدى الطلبة، وهذا البرنامج يجب أن يتحرر من شرح الكلمات العويصة، ويكون وجهاً للهدف بدقة، فلن تخلق ثقافة آثار لدى طلبتنا بشرح الكلمات الصعبة وتحفظيهم إياها.وعلينا أن نقتبس مناهج البحث في الشعر بالجامعات الأجنبية، كي نستفيد من التقدم العلمي الذي نعايشه، فمن درس في تلك الجامعات الأجنبية فلا بد أن يلحظ أن هناك أساليب في البحث والتنقيب لا بد أن يستفاد منها.إن العصر الجاهلي حافل بالمعلومات التي يمكن أن تمدنا بنظرات نحن أحوج ما نكون إليها، ولن ينجح ذلك البرنامج الذي نقترحه للشعر الجاهلي إلا اذا تغيرت نظرة الفرد، وأصبح لديه عقل علمي يتعاطى مع عمق تلك القصائد.والله من وراء القصد.* أكاديمي ومفكر من البحرين
مقالات
ماذا نعرف عن الجاهلية غير أسماء المواقع في افتتاحيات القصائد؟
24-04-2014