أشار هنري كيسنجر ذات مرة إلى أن روسيا منذ عهد بطرس الأكبر تتوسع بمساحة تعادل مساحة بلجيكا كل سنة، ولا شك أن هذا التوسع توقف مع انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي اعتبره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "الكارثة الجيو-سياسة الكبرى خلال القرن العشرين".

Ad

تقضي مهمة بوتين اليوم بالعودة إلى ذلك الوضع، أولاً، عليه إعادة نظام الحكم الروسي المستبد التقليدي بتفكيك الديمقراطية الروسية الناشئة، وبعد إرساء "استقرار" مضبوط بيد من حديد، يبدأ الزحف.

استخدم بوتين الحرب مع جورجيا عام 2008 لفصل إقليمين عنها وإعادتهما إلى حضن روسيا الأم (من خلال استقلال صوري). ثم مارس السنة الماضية الضغوط على أوكرانيا لحملها على رفض صفقة شراكة من الاتحاد الأوروبي تفاوض بشأنها الطرفان منذ مدة، وذلك بهدف جذب أوكرانيا إلى "الاتحاد الأوراسي" الذي يخطط بوتين لتحويله إلى جوهر الإمبراطورية الروسية الصغيرة الجديدة.

ولكن تبين أن لأوكرانيا حسابات مختلفة، فقد أطاحت برجل موسكو في كييف، فيكتور يانوكوفيتش، ولجأت إلى الغرب، إلا أن هذا الأخير (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) لا يملك أدنى فكرة عما يجب فعله.

إلا أن روسيا تعرف جيداً ما تفعله، فقد نددت موسكو بالإطاحة بالرئيس الأوكراني، معتبرة إياه عملاً غير مشروع نفذته عصابات فاشية، كذلك رفضت الاعتراف بالحكومة الجديدة التي شكلها البرلمان، وأوقفت كل المساعدات الاقتصادية، وفي تصعيد بالغ العدائية، حشدت قواتها العسكرية على الحدود الأوكرانية.

ماذا كان رد الفعل؟ تردد الاتحاد الأوروبي ولم يحرك أوباما ساكناً، وبعد حالة من الصمت المطبق طوال الأشهر الثلاثة الأولى من صراع أوكرانيا من أجل الحرية، أعلن أوباما على شاشات التلفزيون الأسبوع الماضي أن أوكرانيا في رأيه "ليست لعبة من لعب الحرب الباردة".

لكنها كذلك للأسف بالنسبة إلى بوتين، وهو يريد استرجاعها.

يرغب أوباما في نشر الاستقرار، حسبما أفادت صحيفة "نيويورك تايمز" نقلاً عن مصادر داخلية، لكن الرئيس الأميركي يعتبر أوكرانيا مجرد أزمة تجب إدارتها، لا فرصة لتغيير مسار يزداد استبداداً في المنطقة بالسماح للأوكرانيين بتحقيق حلمهم بالانضمام إلى الغرب وعرقلة حركة روسيا الاستعمارية الجديدة.

يبدو أوباما متعاطفاً مع الديمقراطية، لكن يجب أن تأتي هذه الديمقراطية، في رأيه، بشكل طبيعي وتنبع من تطورات داخلية؛ لذلك من الضروري ألا تُفرض من خلال تدخل خارجي، بل أن تنمو من تلقاء ذاتها.

لكن أوكرانيا لم تسلَم يوماً من التدخل الخارجي، خصوصاً مع وجود دبّ بجوارها؛ نتيجة لذلك، لا تعيق سلبية الولايات المتحدة نشوء مجتمع سياسي أوكراني حقيقي فحسب، بل تترك أيضاً أوكرانيا وحيدة في وجه الضغوط الروسية.

لا يفهم أوباما، على ما يبدو، أن وقوف الولايات المتحدة على الهامش يولّد نوعاً من الفراغ، فقد عرّض انسحابه من العراق ذلك البلد للهيمنة الإيرانية، تماماً كما أن تخليه عن سورية أتاح لروسيا وإيران وحزب الله التدخل لقلب موازين المعركة.

ينجح بوتين في استغلال هذا الفراغ بالكامل. على سبيل المثال، لا ينفك يتباهى بنفوذه في أوكرانيا، فقد سحب رزمة المساعدات التي تبلغ مليارات الدولارات، التي استخدمها أخيراً لاستمالة الرئيس الأوكراني المخلوع بعيداً عن الاتحاد الأوروبي، كذلك حشد فجأة القوات الروسية على حدود أوكرانيا، حتى إن المسؤولين الروس في مجال الصحة العامة بدأوا يشككون في أمان الواردات الغذائية الأوكرانية.

لا شك أن هذه ليست حملة صحية أو غذائية، بل رسالة إلى كييف: يمكننا وقف صادراتكم الزراعية اليوم وإمدادات الغاز الطبيعي غداً. نستطيع إفلاسكم وتعريضكم للصقيع.

ذكر كيسنجر أيضاً ذات مرة: "لا يمكن تحقيق السلام إلا من خلال الهيمنة أو توازن القوى". إذاً، إما ترضخ أوكرانيا للهيمنة الروسية أو تنجح في النهاية في تحديد مستقبلها، إذا وازنت الولايات المتحدة القوة الروسية.

كيف؟ يمكنها أن تبدأ بإعلان دعم أميركي كامل للقرار الأوكراني، لتقدّم بعد ذلك رزمة مساعدات وقروض مهمة (تستبدل مثلاً الخمسة عشر مليار دولار التي كانت روسيا ستمدها بها) بغية مساعدة أوكرانيا على تخطي أزمتها المالية المباشرة. ثم تتعاون مع الاتحاد الأوروبي لتقديم رزمة بديلة على الأمد الطويل يُفضَّل أن تكون من خلال صندوق النقد الدولي.

أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري أن التدخل الروسي سيشكل خطأ، ولكن من المؤسف أن إعلاناً مماثلاً يصدر عن هذه الإدارة الأميركية لا ثقل له البتة، إلا أنه يبقى في النهاية أفضل من الصمت، في حين أن الحل الأمثل يكمن في دعم هذه الكلمات بإرسال أسطول بحري إلى البحر الأسود.

من غير المؤكد ما إذا كان أي أمر يقوله أوباما أو يقوم به قد يوقف أحداً، ولكن لا شك أن الغرب يتمتع بنفوذ مالي أكبر، مقارنة بالاقتصاد الروسي الذي يقوم على استخراج المواد الأولية والكليبتوقراطية (حكم اللصوص)، والذي لا يصدّر سوى النفط والغاز والفودكا.

إذاً، على الولايات المتحدة أن تقود أوروبا للتصدي للضغط الروسي والتعويض عن سياسة التملق والعقوبات التي تعتمدها، إلى أن تصبح أوكرانيا في حالة اقتصادية ثابتة.

صحيح أن 15 مليار دولار مبلغ كبير من المال، إلا أنه أقل من نصف 1/10 من 1% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولا شك أن إنفاق المال أفضل من إراقة الدماء، خصوصاً بالنظر إلى المخاطر الاستراتيجية المرتبطة بهذه المسألة: من دون أوكرانيا، ما من إمبراطورية روسية.

يدرك بوتين هذا الواقع، ولهذا السبب لا ينفك يزيد الضغط على أوكرانيا، وهنا ينشأ السؤال: هل تستطيع هذه الإدارة التصدي للضغط الروسي كي تسمح لأوكرانيا بالتنفس؟

* تشارلز كراوثامر | Charles Krauthammer