حقق رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان انتصاراً في شهر مارس بفوزه في انتخابات البلدية، فقد نجح حزبه في الاحتفاظ بإسطنبول، منصب العمدة الأكثر أهمية في البلد، وحصد أكثر من 45% من مجموع الأصوات، وتمكن أردوغان من تحقيق هذا النصر رغم فضيحة الفساد الكبرى التي أطاحت بأربعة وزراء، ومجموعة من المحادثات المسرّبة التي أظهرت أن رئيس الوزراء يفرض تعيين الصحافيين أو طردهم ويتدخل في التغطية الإخبارية، وليحول أردوغان دون تفاقم الضرر الحاصل حظر أيضاً موقعَي تويتر وYouTube في تركيا.
يمكننا استنتاج خلاصات أربع من هذه الانتخابات:أولاً، نجح حزب أردوغان الحاكم (العدالة والتنمية)، في إظهار الانتخابات كاستفتاء بشأن شعبية رئيس الوزراء، وقد وقعت المعارضة، التي انخدعت بالمزاعم الكثيرة الصادرة، في هذا الشرك. نتيجة لذلك، تحوّلت الانتخابات البلدية، التي يُفترض أن تكون انتخابات محلية، إلى استفتاء وطني بدت فيه المعارضة بالغة الضعف. وفي إجابة عن السؤال البياني: "هل أنت أفضل حالاً اليوم مما كنت عليه قبل أربع سنوات؟"، أجاب الشعب التركي بنعمٍ مدوية. أدت هذه الاستراتيجية إلى تجاهل حزب المعارضة الأساسي تقديم الاقتراحات الحقيقية والتركيز على أردوغان، الذي قاد الحملات في كل أجزاء البلد كما لو أن حياته على المحك. نتيجة لذلك، بدت مناورات أحزاب المعارضة التركية ناقصة سابقاً، وظلّ كذلك في الانتخابات الأخيرة.ثانياً، نجح حزب العدالة والتنمية أيضاً في جعل المعارضة السياسية خاضعة للقائد الديني فتح الله كولن، الذي يقيم اليوم في منفى اختياري في بنسلفانيا. قرر كولن والكثير من أتباعه، الذين كانوا حلفاء حزب العدالة والتنمية حتى وقت ليس ببعيد، مواجهة أردوغان، وتبدو أسباب هذا التبدل معقدة، إلا أنها تعود في المقام الأول إلى خوفهم من تنامي نفوذه على حساب كل القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى، فضلاً عن فساد حكومته الواضح والوقح. نتيجة لذلك، ندد أردوغان وداعموه بهذه الحركة، التي يعتبرونها مسؤولة عن التسريبات المؤذية، كذلك صوروها كمنظمة غريبة تغلغلت في البلد وكدولة موازية تغتصب سلطتهم الشرعية، فضلاً عن ذلك، أعادت الحكومة تصنيف نفسها كضحية، في حين خاضت هجوماً مضاداً عنيفاً اعتمد على سياسة الأرض المحروقة.ثالثاً، قوّضت الانتخابات الضمانة الوحيدة التي كانت قائمة في تركيا: إن الانتخابات (باستثناء المناطق الكردية حيث سبق أن تلاعب الجيش بنتائج الاقتراع) كانت دوماً عادلة ونزيهة، فبعد بدء إحصاء الأصوات بساعات، شكك خصوم الحكومة بالنتائج في الكثير من البلديات، كذلك حصل انقطاع للتيار الكهربائي في مقاطعات عدة خلال عملية الإحصاء، فضلاً عن إعلان نتائج خاطئة، تعرض وسائل الإعلام الموالية لكولن والمعارضة لاعتداءات، وصدور الكثير من التقارير عن حوادث غريبة. نتيجة لذلك، تحدى متطوعون كثر شرعية النتائج، خصوصاً في أنقرة ومقاطعات محددة من إسطنبول. وبخلاف معضلة إعادة إحصاء أصوات فلوريدا عام 2000، حين قُبلت النتائج في النهاية وإن بتردد، لا تنبئ هذه التطورات بالخير بالنسبة إلى مستقبل الانتخابات التركية وشرعيتها. وإذا لم يسمح حزب العدالة والتنمية لمجلس الانتخابات الأعلى بالرد بطريقة شرعية دستورية على هذه الانتهاكات في عمليات الاقتراع، فسيلحق بهذا النظام ضرر دائم، ولا شك أن تركيا تفتقر إلى الوسائل الضرورية للتعاطي مع تحديات هائلة كهذه.أخيراً، أحدثت هذه الانتخابات انشقاقات داخل البلد بطريقة لم نشهد لها مثيلا من قبل، ففي الماضي، قبِل الناس، الذين يكرهون أردوغان وحزبه، قيادة رئيس الوزراء هذا لأنه حقق الفوز في انتخابات عادلة ونزيهة، لكنهم باتوا يعتبرونه اليوم حاكماً غير شرعي، فقد نفّر سلوكه المستبد كثيرين، خصوصاً الخبراء والمحترفين في مجال التكنولوجيا العالية في المدن. على نحو مماثل، يعتبر أردوغان وداعموه أيضاً خصومهم غير شرعيين، فهم في رأيهم خونة وأدوات في أيدي قوى خارجية، لذلك يستحقون الملاحقة القضائية. نتيجة لذلك، باتت تركيا تشبه فنزويلا اليوم، ولا يُعتبر خطاب الانتصار الذي أدلى به أردوغان مذهلاً، بخلاف المناسبات السابقة، فقد كرر تعهده باقتلاع أعضاء "الدولة الموازية" من السياسة والمؤسسات، ولكن تكمن المشكلة في أنه هو مَن يحدد مَن هم أعضاء هذه "الدولة الموازية"، ويشمل المرشحين وكل مَن تجرأ على انتقاده أو مهاجمته. حتى إن أردوغان توقع أن الكثير من خصومه سيرحلون من البلد، ما يذكّر بادعاءات خصومه في وقت سابق عن أن أردوغان سيفرّ إلى الخارج. أخبرتني بروفيسورة صديقة راقبت عملية الاقتراع في عدد من المناطق أنها لن تتفاجأ بعد انتصار حزب العدالة والتنمية، إن طُردت من وظيفتها، ويسود جو الخوف هذا تركيا اليوم. ستبدأ المعركة التالية في هذه الحرب قريباً، فعلى أردوغان أن يقرّر ما إذا كان سيترشح للرئاسة في شهر أغسطس المقبل، وهذه المرة الأولى في تاريخ تركيا التي يُنتخب فيها الرئيس مباشرة من الشعب، ولكن على المنتصر أن يحصد أكثر من 50% من الأصوات، ولا شك أن نسبة الـ45% التي حققها حزب العدالة والتنمية أخيراً جيدة، إلا أنها جاءت أقل من نسبة الـ48% إلى الـ49% التي كان يرغب فيها. من المرجح أن يتولى أردوغان منصب الرئاسة ويعين سياسياً خاضعاً له على رأس حزب العدالة والتنمية والحكومة، لكنه يواجه عقبة كبيرة: زميله القديم الذي شاركه في تأسيس حزب العدالة والتنمية، الرئيس الحالي عبدالله غول. سيرغب غول على الأرجح في البقاء رئيساً أو الفوز بمنصب رئاسة الوزراء، وبما أن المعارضة عاجزة عن كبح نفوذ أردوغان، فقد تحوّل غول إلى الموازن الفعلي لسلطته، ولكن هل يقبل أردوغان بالتسوية؟ سنعرف الجواب قريباً.لربما نجح أردوغان في التغلب على خصومه في الداخل في الوقت الراهن، إلا أنه لم يتعافَ بعد من الضرر الذي ألحقه بنفسه في الخارج، فقد اهتزت صورته بشدة وتراجعت شعبيته، إذ جعلت الاتهامات الغربية التي وجهها أردوغان إلى حلفائه بشأن التخطيط لانقلابات ضده- تدخله الواضح في وسائل الإعلام، والحظر الذي فرضه على وسائل التواصل الاجتماعي- أوروبا والولايات المتحدة تشككان في مصداقيته كشريك. سيحاول أردوغان، على الأرجح، التخفيف من قلقهما بفتح حوار مع قبرص وإسرائيل، ولكن من المستبعد أن يؤخذ على محمل الجد كلاعب، بل سيعامل كمجرد قائد حالي لحليف مهم.في المقابل، هل تتعلم المعارضة التركية من هذه الهزيمة؟ لا تراهنوا على ذلك، فقد أصاب أردوغان حين ذكر في خطاب النصر أنه مهما كانت نتائج الانتخابات الأخيرة في تركيا، فلن يقبل الخاسرون بالتنحي جانباً وفتح الطريق أمام دماء جديدة وأفكار مبتكرة. على سبيل المثال، يقود زعيم الحركة القومية حزبه هذا منذ 17 سنة، مع أن هذه الحركة لم تنجح يوماً في الفوز بأكثر من 15% من الأصوات، وعلى نحو مماثل، أعلن زعيم المعارضة البارز، كمال قليتش دار أوغلو من حزب الشعب الجمهوري، أنه لا ينوي إجراء أي تغييرات، وأنه مستعد لأي انتخابات وطنية قد تدعو إليها الحكومة. أين المنطق في ذلك؟ترتبط الانتخابات الرئاسية المقبلة أيضاً بعملية السلام الكردية، وكي يتمكن أردوغان من تخطي عتبة الخمسين في المئة، يحتاج إلى أصوات الأكراد، وقد أظهرت الانتخابات البلدية بكل وضوح أن الحزب الموالي للأكراد، حزب المجتمع الديمقراطي، صار يسيطر بالكامل على المناطق الكردية؛ لذلك سيتوقع الأكراد بالتأكيد تسوية مهمة من أردوغان قبل أن يعطوه صوتهم.بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يعزز الانقسام المتنامي مع كره كل طرف للطرف الآخر ميول أردوغان الاستبدادية الظاهرة بوضوح، ولكن علينا أن ننتظر لنرى كم سيكون انتقامه في مرحلة ما بعد الانتخابات واسعاً وعميقاً، قد يفرض رئيس الوزراء هذا المزيد من القيود على الشركات، كما سبق أن فعل في حالات محددة، لأنها دعمت المعارض خلال انتخابات شهر مارس أو خلال التظاهرات السابقة المناهضة للحكومة في شهرَي مايو ويونيو عام 2013.لا شك أن تركيا ستواجه ظروفاً عصيبة، في حين يحشد الطرفان قواهما لخوض "حرب حتى النهاية". نتيجة لذلك، قد تتحوّل الشكوك، والخوف، والانتقام إلى المحاور الأبرز خلال الأشهر القادمة. وسيتبين أن الاستقرار في ظل حكم الحزب الواحد خلال عهد "السيد"، حسبما يدعو أنصار أردوغان رئيس الوزراء هذا، ما هو إلا وهم.* Henri Barkey
مقالات
أردوغان يواجه مأزقاً أكبر
05-04-2014