لا أحد يشك في أهمية ما حققه العراقيون من نجاح في نقل السلطة سلمياً، وتهيئة الظروف لتنازل نوري المالكي لمصلحة رئيس الوزراء المكلف حيدر العبادي، متجنبين المزيد من العنف، ومندفعين نحو فرصة انفتاح على التصالح، ستجعل بغداد أقدر على تفكيك بيئة العنف وسحب البساط من تحت أقدام "داعش"، الذي بات يسيطر على أكثر من ثلث مساحة البلاد، منذ شهرين.

Ad

ويقول الخبراء إنها أول مرة تنجح فيها أحزاب العراق في صناعة موقف داخلي واضح ومبرر ومتماسك، يجبر الإرادات الخارجية، على دعم الرغبة الداخلية، وهذا ما يفسر الدعم الدولي السريع للعراق الذي ظل مهملاً طوال العامين الأخيرين، في صخب انشغال العالم بألف قضية أخرى.

لكن التخلص من عناد المالكي والتبعات التي كان يمكن أن تحرق بغداد في ذلك الإطار، ليس إلا نهاية لمدخل سياسي نحو الاختبار الحقيقي، فخصوم رئيس الوزراء السابق كانوا يحملونه مسؤولية جمود الحوار الداخلي، وبرود العلاقات الإقليمية أو تشنجها، وشلل الواقع التنموي والاقتصادي، وهم محقون في ذلك لأنه احتكر الملفات الكبرى في مكتبه، ورفض الاستماع لأي نصيحة شيعية أو غير شيعية.

إلا أن المالكي رحل، وصار الجميع أمام سؤال كبير: هل ستسمح الظروف المعقدة والالتزامات الجديدة، لأحزاب الشيعة، بفعل ما عجز المالكي عن فعله، في تبريد الخلافات مع السنة والأكراد، وبما يضمن شعوراً دولياً وإقليمياً بالرضا مع بعض الارتياب الإيراني، من طهران التي لم تتعود على تصميم تنازلات تجدها مضرة بـ"هيبتها" والتزاماتها بالمناورة في كل ملفات المنطقة؟

الجواب عن هذا السؤال ليس سهلاً من جهة، لأن مطالب الأكراد والسنة تعاظمت منذ سقوط الموصل بيد "داعش" وانكشاف هيبة بغداد، كما أن مخاوف الأكراد والسنة تعاظمت وصاروا بحاجة إلى ضمانات من قياس مختلف، إثر فصل طويل من نكث المالكي للعهود والالتزامات.

لكن الجواب يبدو سهلاً من جهة أخرى، لأن حزب الدعوة، الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء المكلف حيدر العبادي، أضعف من السابق، ويحتاج إلى اتخاذ قرارات جماعية مع مقتدى الصدر وعمار الحكيم ومرجعية النجف، الذين كانوا طوال الوقت مناصرين لدفع الحوار وتجنب الصدامات الداخلية ومنطق الإخضاع. وأيضاً فإن شيعة العراق أدركوا أن أسلوب إيران التصعيدي في المنطقة باهظ الثمن، ولن يأتي إلا بالويلات، كما أن المجتمع الدولي بدا مستعداً لمعاقبة الحاكم الشيعي إذا أوصد باب التفاوض.

وفي الوقت نفسه، فإن سقف الأكراد والسنة التفاوضي، الذي بدا عالياً، يمكن أن يعود طبيعياً، لأنهم أدركوا كذلك أن البلاد تواجه خطراً أكبر من أي تصور، حين نجح "داعش" في إلحاق هزيمة بالبيشمركة على أبواب أربيل، لولا مسارعة واشنطن إلى الإسناد الجوي المكثف. وهكذا فإن مراكز القوى السنية وأحزاب كردستان راغبون أكثر مما مضى في إيجاد تسوية، للمرور من عنق الزجاجة والظروف التي شردت 1.7 مليون عراقي، يتحمل تبعات نزوحهم بشكل أساسي إقليم كردستان والأحزاب السنية.

أخطر الملفات في صفقة السلام هي العفو عن المسلحين والبعثيين السنة، والموافقة على ضم كركوك إلى كردستان. وهي ملفات حرجة جداً بالنسبة إلى الشيعة، وسيحتاجون إلى شراكة دولية لتصميم مسار تفاوضي بهذا الشأن.

وفي الوقت ذاته، ستكون هناك ملفات متفق عليها، من قبيل دعم اللامركزية وصلاحيات إقليم كردستان والمحافظات السنية، وهو ما كان يرفضه المالكي، بينما يدعمه خصومه الشيعة. ويمكن لإجراءات في هذا الإطار، ذات أثر اقتصادي فوري، أن تشيع جواً من الثقة يسهل التعامل مع الملفات الكبيرة.

ووسط حديث عن استعداد المسلحين السنة للتصالح مع الحكومة، سيبقى سؤال الخلاص من "داعش"، الذي يسيطر على نحو 3 محافظات بمساحة شاسعة، يقطنها نحو 5 ملايين عراقي معظمهم سنة، المحور المحير للأطراف العراقية الثلاثة، والذي لا أحد يزعم بامتلاك وصفة محلية لتنفيذه، ما يساعد على تدويل هذا الملف بتدخل أميركي سيظل مشروطاً بقيود على حكومة العبادي.