كتب الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لعامله على أحد الأمصار عن القضاء قائلاً: "وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا رخاء، والعدل وإن رئي لنا فهو أقوى وأطفأ للجور وأقمع للباطل"، كما كتب أيضاً لأحد ولاته، الذي طلب مالاً منه لتحصين المدينة، قائلاً له: "حصنها بالعدل"... هذه مكانة ووظيفة القضاء يلخصها أمير المؤمنين بكلمات شديدة البلاغة، واليوم الدول التي يهتز نظامها القضائي ويشكَّك فيه دون أن تتحرك كل سلطاتها للدفاع عنه وتبرئة ساحته، فإنها دول تتجه إلى الدمار والهاوية، آجلاً أم عاجلاً دون ريب في ذلك.
وبدون أدنى شك فإن السلطة القضائية الكويتية أصابها أذى شديد منذ فترة وصل إلى قمته في ما حدث مساء الثلاثاء الماضي، من اتهامات مختلفة طالت السلطة ككل وبعض أعضائها، وليس من الحكمة تناول تفصيله أو حتى إعادة عناوينه، ولكنني وكثيرين مثلي مفجوعون ومرعوبون مما أثير، لأن ذلك السلوك الشائن بالتشكيك في هذه السلطة ليس بالأمر الهين، بل إنه غرس للفوضى في المجتمع، لأن تكريس هذا الأمر في نفوس الناس سيؤدي إلى تفتت الثقة تدريجياً لدى العامة بمؤسسات الدولة، وأهمها القضاء، لاسيما أن القضاء هو المرفق الأكثر حساسية الذي يمثل ضمانة حقوق الشخص الفردية المتعلقة بحقوقه وماله وعرضه، وهي الثقة التي يؤدي سقوطها إلى الخروج على الدولة وحتى مواجهتها من خلال اصطناع أي حركة فوضوية في البلد مستقبلاً.لذلك، فإن الكلام السياسي والنفي والإحالة إلى التحقيق للاتهامات ليست كافية، بل المطلوب استنفار كل سلطات الدولة للدفاع عن السلطة القضائية وتبرئة ساحتها عبر تحقيق من جهات محايدة ودولية، والانتقال الفوري لتحصينها من تعدٍّ واتهامات مماثلة في المستقبل عبر إقناع النظام بأن استقلالية القضاء ليست أمراً ثانوياً يمكن مقاومته ومنع تحقيقه، بل حاجة ملحة تتعلق بأمن واستقرار النظام نفسه، وذلك يجب العمل على تحقيقه، بجانب أهمية استكمال منح الضمانات المعيشية للقضاة مقابل تفعيل معايير سلوك القاضي، ووقف كل تعاملاتهم في مجال التجارة والتعاقد مع أملاك الدولة والتطبيق الفوري لكشف الذمة المالية، وهي مجموعة إجراءات يجب أن تكون مرجعيتها متماشية مع وثيقة الشارقة حول أخلاقيات وسلوك القاضي الصادرة عن المؤتمر الحادي عشر لرؤساء أجهزة التفتيش القضائي في الدول العربية والمبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية، والتي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1985، ومبادئ بانجلور للسلوك القضائي، ووثيقة الرياض حول أخلاقيات وسلوك القاضي العربي، وهي حزمة الإجراءات التي ستشكل الحصن الذي سيوقف أي تناول أو تشكيك في هذه السلطة.بالتأكيد أن ضمان كل احتياجات القضاة وتأكيد استقلاليتهم هو صون للمجتمع، ولكن إغراق هذا المرفق بالامتيازات المالية أيضاً له محاذيره. وأروع ما سجل في هذا المجال ما كتبه المستشار طارق البشري نائب رئيس مجلس الدولة المصري الأسبق بقوله: "إن ثمة أمرين متلازمين لا يكتمل التكوين القضائي إلا بهما، أولهما نظامي يتعلق بالتكوين المؤسسي المستقل للجهاز القضائي، وثانيهما نفسي تربوي يتعلق بتكوين القاضي الإنسان، وكما أنه لا كفاءة لعالم في أي من فروع العلم الطبيعي أو الاجتماعي إلا بالصدق ولا كفاءة لجندي مقاتل إلا بالشجاعة ولا كفاءة لرائد فضاء إلا بروح المغامرة ولا كفاءة لتاجر إلا بروح مضاربة فإنه لا استقلال لقاضٍ ولا حياد له إلا (بروح استغناء)"... وهنا لا يمكننا أن نتجاوز حادثة رفض القضاة المصريين عام 1952 المرسوم الملكي برفع سن التقاعد وزيادة رواتبهم أثناء نظر قضية حريق القاهرة، والذي اعتبروه بمنزلة رشوة وإفساد للقضاء عبر إغراقه بالمال ومنح أجور مبالغ فيها لا تتناسب مع كمية العمل والأجور السائدة في المجتمع حينئذ!
أخر كلام
دافِعوا عن القضاء... حصِّنوا القضاء!
15-06-2014