الفقد... حالة من المشاعر الإنسانية المربكة، رمادٌ يحرق كما لو أنه جمرة تختال بلهيبها، ماءٌ قُدّ من صلب نار، لا يبقي ولا يذر على عشبة في حنايا الروح إلا وألبس قبيلتها "بني أخضر" ثوب السواد، وأقام لها سرداق العزاء، الفقد... لا ينذر بقدومه، لا يبعث برسله مسبقاً، لا يعلن ساعة قدومه، لنعد أنفسنا لاستقباله، أو ربما نقوم ببعض المحاولات لرشوته عسى أن ننجح في أن نثنيه عن عزمه بالقدوم، أو ننجح في إقناعه بأن يمنحنا مهلة إضافية من الوقت مع من أو ما سنفقد، حتى رسائل النذر التي يرسلها مسبقاً، مخاتلة... عادة ما تكون تلك الرسائل مختومة في نهاياتها بختم الأمل! ولأننا نتشبّث في ساعد قشّة، نتجاهل كل كلمات الرسالة ونذكر فقط أدق تفاصيل ذلك.

Ad

الختم، شكله، إيحاءاته، ألوانه، رسوماته، انحناءة كل خطّ، حجم كل نقطة، وبعد أن يأخذ الفقد من بين أيدينا على حين غرة ما كان قد أنذرنا بأخذه، نكتشف أن ختم الأمل ذاك لم يكن سوى ختم مزوّر بحرفية عالية، مما يبرّئ الفقد ويخلي ذمّته من تهمة المباغتة!

أما أكثر رسائله وجعاً، هي تلك الرسائل التي نكتشف بعد الفقد أنه قد أرسلها فعلاً قبل حين، لكننا لم نُحسن قراءتها حينها، كأنما الفقد أخذ على نفسه عهداً ألا يزورنا دون أن يغرس بين ضلوعنا فسيلة من وجع! وغالباً ما أوفى عهده، لذا يتبع الفقد أساليب ملتوية ومباغتة، ويتربّص بقلوبنا بدهاء يحسد عليه، يخطف من بين أيدينا ما يعزّ على قلوبنا، ثم يخرج مختالاً ببراءته، ولا نعلم إن كان الوجع ناتجاً عمّا أخذه بيده اليسرى، أم من رؤيتنا له وهو يخرج - دون حتى أن يلتفت إلينا- رافعا صك براءته بيده اليمنى ملوحاً به إمعاناً في الوجع!

لا نذكر يوماً أنه قال: الوداع، إنما قوله الأثير دائماً، والذي ما انفك يردّده كلما همّ بالخروج: إلى لقاء!

يقول جملته تلك في عزّ أحزاننا، لا يؤجلها مقدار حين من السلوى، أو بعد حين من قراءة قائمة الفقد الطويلة، دائما ما يقول "إلى لقاء" في ذروة جراحنا، ولكي يتأكد من وصولها كما يجب، يدسّ جملته في مناديل الدمع، في كلمات العزاء التي ينثرها الآخرون في إيدينا، في شعلة النار المتقدة في صدورنا، في الأماكن التي خلت في الروح ممن فقدنا، في قميص الذكريات المنسوج من حكاياتنا معهم والذي نرتديه فجأة لنملأ أنوفنا بما بقي فيه من رائحتهم، حتى رائحتهم في ذلك القميص نجدها مختلطة برائحة جملته تلك: إلى لقاء!

يصرّ الفقد أن يفتح في قلوبنا شبابيك الألم... لتعبث بها رياح الوجع، وتخط بإزميلها على جدرانه ما تشاء من الكلمات، وتنقش عليها ما تشاء من الرسومات... تلك هي لعبة الفقد المفضّلة ومتعته، لذا قررت أن أحرمه على الأقل تلك المتعة طالما لا أقوى على منعه من ممارسة اللعب، فكلما أخذ الفقد غاليا من بين يدي، التفت إليه قائلاً: نحن نشعر بالفقد فقط حينما نخسر ما هو ملك لنا، وأنت لا تأخذ سوى ما لا نملك! من حينها خلا قميص ذكرياتي مع من يأخذهم الفقد من رائحة جملته الأثيرة المستفزّة، وبقيت في القميص رائحة من أحب فقط، عطرة نقية!

أظن أن الفقد... فقد متعة اللعب وإن لم يتوقّف!