تعود الذكرى بالأميركيين في هذه الفترة إلى عهد رئيس جمهوريتهم جون فيتزجيرالد كنيدي، الشاب ال ذي عقدت الأمة الأميركية آمالها عليه، وإذا بيد الغدر تغتاله في 22 نوفمبر من العام 1963، فيبكي الأميركيون ويبكي العالم بأسره معهم على تلك الإطلالة التي كانت تدغدغ أحلام الشباب وتعدهم بمستقبل زهر اقتصادياً وعلمياً وأمنياً.

Ad

خمسون عاماً

مرت خمسون عاماً على الأميركيين بسرعة البرق. وفي هذه الذكرى انطلقت الصحافة لتفتح ملفات تلك الفترة المؤثرة من تاريخ أميركا والعالم، وامتلأت الواجهات بالمجلات والكتب من مختلف الاتجاهات السياسية والاجتماعية، تضع المقالات وتعرض الصور وتحلل المواقف استناداً إلى الواقع أحياناً، واعتماداً على نسج مخيلات رجال الأعلام أحياناً أخرى.

لقد كان اغتيال الرئيس جون كنيدي لغزاً حيَّرَ الإدارة الأميركية لسنوات عدّة ولا يزال، وأربك الشعب الأميركي الذي ألّف عن مقتله روايات وسيناريوهات تفوق التصوّر وتتعدى الخيال.

ليس أوّل الكتب

رأى البروفسور الجامعي بيل أوريللي أنّ الفرصة سانحة لاغتنامها وهو الخبير في سرد الاغتيالات، فقد نشر سابقاً كتاباً بعنوان «مقتل لنكولن»، وآخر بعنوان «مقتل كنيدي»، وثالثاً بعنوان «مقتل يسوع»، وها هو اليوم ينصرف إلى سرد محطات رئيسة من حياة كنيدي في كتاب دعاه «أيام كنيدي الأخيرة».

وضع المؤلِّف كتابه في مقدّمة وأربعة أجزاء تتناول المرحلة التي تولى كنيدي فيها مسؤولية الرئاسة انطلاقاً من 20 يناير 1961 عندما أقسم اليمين مردّداً حلفانه أمام رئيس القضاة، إلى 22 نوفمبر يوم اغتياله من لي هارفي أوزولد في مدينة دالاس. ثم يأتي بعد ذلك على ما وثّقه من مراجع ونتائج تحقيق ومقابلات.

صناعة البطل

بسط جون فيتزجيرالد كنيدي يده وأقسم على خدمة وطنه وشعبه في العشرين من يناير 1961، فغدا الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة.

لم يحظ كنيدي بأكثر من 49% من أصوات الناخبين مما يعني أنه لم يتمتع بأكثرية شعبية، لكنه عندما فاز غمرت الأميركيين موجة عارمة من مشاعر الفرح، ويعزى ذلك إلى عمره الشاب آنذاك إذ لم يتجاوز الثالثة والأربعين، وإلى حيويته البالغة، وإلى تقربه من وسائل الأعلام واستمالتها إليه، فبدا للجميع أن مستقبلاً جميلاً ولامعاً قد أطلّ على البلاد.

منذ أوّل إطلالة بعد استلامه كرسي الرئاسة، ضمّن خطابه تعابير وطنيّة تخلب الألباب وتزرع الطمأنينة في صدور مواطنيه، هو الذي سيمحي وسيحافظ سيدافع عن دستور بلاده. وكانت تقف إلى جانبه زوجته جاكلين التي سحرت قلوب الجماهير برقتها وحسنها ولياقتها في مخاطبة الناس.

بعد أن عرض كنيدي رؤيته الخاصة لمستقبل بلاده في خطاب رنان، دخل إلى مكتبه في البيت الأبيض واجتمع بمستشاريه للبدء بوضع خطط إبرازه كبطل وطنيّ يحظى بثقة شعبه ويتطلع إلى تأمين حياة كريمة لكل أميركيّ. وكانت خلفيّة عائلته ذائعة الصيت بغناها وتضحيتها وخدمتها لوطنها، كما كان هو أيضاً يحمل وسام الحرب ووسام الجرحى بسبب إصابته في معركة حربية في الحرب العالمية الثانية، وفوزه بجائزة بوليتزر عن كتاب وضعه في العام 1956 بعنوان «شخصات شجاعة» يستعرض فيه رجال السياسة الذين لم يتورعوا عن فرض آرائهم ولو اضطروا إلى المخاطرة بسمعتهم.

انصرف كنيدي إلى الإصلاحات الاجتماعية فوضع برنامج «البطاقة الغذائية»، ورفع بدلات العاطلين عن العمل. ثم انصرف إلى تعزيز القوى العسكرية فأطلق مشروعاً لتسليح يتضمن مضاعفة هدد الصواريخ النووية البالستية عابرة القارات (بولاريس)، وأنواع أخرى من الصواريخ الاستراتيجية. لكن نقطة سوداء بقيت تلطخ سيرته عندما فشل في احتلال «خليج الخنازير» واغتيال فيدال كاستروا، وكان يقول لبطانته إن وكالة الاستخبارات CTA هي التي ورطته في هذه المسألة.

صناعة قائد

مسؤولية رئيس الجمهورية ليست في البطولة فحسب، بل تتجلّى في القيادة الحكيمة التي تدرك الأبعاد وتستشرف المستقبل، وقد وصل جون كنيدي بسرعة إلى هذه المرحلة، وتابع إصلاحاته فعيّن الحدّ الأدنى للرواتب، ولاحق تطوّر الدراسات والاختبارات الفضائية فكان الرائد جون غلين أوّل من دار حول الأرض خارج نطاق الجاذبية، وقد أعلن كنيدي في جامعة رايس- هيوستن عن أمله في مشاهدة أوّل أميركي يطأ قدمه سطح القمر قبل انتهاء عقد الستينيات.

أما على الصعيد العنصري فقد أصدرت المحكمة العليا أمراً لجامعة ميسيسيبي بقبول جايمس ميريديث، وهو أول طالب أسود من أصل أفريقي أميركي يدخل إلى هذه الجامعة بحماية الحراس الفدراليين. كذلك استقبل كنيدي في مكتبه مارتن لوثر كينغ إثر قيادته تظاهرة تطالب بالمساواة بين البيض والسود في حقوقهم المدنية.

لكنّ الحدث البارز الذي استدعى أنظار العالم وجعله يقف على مشارف الهاوية هو في اكتشاف طائرات التجسس الأميركية مواقع للصواريخ النووية أنشأها الاتحاد السوفياتي في كوبا. ولم يكن باستطاعة كنيدي إلاّ ضرب هذه المواقع مما سيؤدي إلى حرب نووية أو الخضوع لتهديد هذه الأسلحة القريبة من بلده.

بعد أسبوع من الاكتشاف ألقى جون كنيدي خطاباً يعلن فيه رغبته في إقامة حصار بحري على كوبا يمنع من خلاله دخول شحنة صواريخ جديدة محملة على بوارج سوفياتية، وطلب من خروتشيف إزالة الصواريخ الموجودة. وقد أدى ذلك الموقف إلى القبول بإزالتها إن تعهدت الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا.

اغتيال

كانت سيارة الرئاسة تسير وسط الجماهير التي تتأهل برؤية قائدها الشاب في أحد شوارع دالاس عندما انطلقت رصاصة الموت واخترقت جسده فأردته قتيلاً.

لي هارفي أوزوالد، 24 عاماً، كان الشخص المتهم بقتل الرئيس الرابع الذي يذهب ضحية اغتيال والثامن الذي يموت وهو في منصبه، وعند إلقاء القبض عليه عشية يوم الاغتيال نفى علاقته بالأمر وزعم أنه قد غرّر به. وبعد يومين بينما كان التلفزيون يصوره على الهواء، قام جاك روبي باغتياله مطلقاً عليه النار من مسافة قريبة.

لا تزال الإشاعات حول مقتل جون كنيدي تتضارب بعد مرور 50 عاماً على اغتياله. فمنهم من يتهم الاتحاد السوفياتي بقتله، والبعض يرجعه إلى المنظمة الأميركية العنصرية كوكلوكس كلان، وآخرون يتهمون المافيا العالمية، أما الحقيقة فقد تكون بين أيدي أجهزة الاستخبارات التي لن تفرج عما توصلت إليه.

أما من قال في أول خطاب له: «أنتم، مثلي، أيّها الأميركيون، لا تسألوا عما يستطيع وطنكم أن يفعله من أجلكم، بل اسألوا أنفكسم عما تستطيعونه أنتم من أجل بلدكم». فقد ووري الثرى في مقبرة أرلنغتون الوطنية وبقيت ذكراه في قلوب الأميركيين.