أي شخص حريص على استقرار وطننا وتطوره لن يرفض المصالحة الوطنية من أجل عودة الصراع السياسي إلى قنواته الطبيعية، ولكن كي تنجح المصالحة السياسية لابد أن تقوم على أسس سليمة وصلبة، وإلا بقيت مجرد أمنيات غير واقعية أو مُسكّنات مؤقتة الهدف منها كسب الوقت وتخفيف الضغط الشعبي المطالب بالإصلاح السياسي والديمقراطي. المصالحة الوطنية الناجحة تتطلب تهيئة الظروف والأجواء السياسية، إذ لا يمكن الحديث عن مصالحة وطنية في الوقت الذي تستمر قضايا الملاحقات السياسية لعناصر المعارضة وشبابها تحت غطاء قانوني، وتُقر القوانين المقيّدة للحريات العامة والمخالفة للدستور مثل قانون هيئة الاتصالات. المصالحة الوطنية تتطلب أيضا تقديم السلطة مبادرة مشروع سياسي متكامل وجريء يتم فيه الاعتراف بأخطاء الماضي، ومعالجة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تراجعنا الديمقراطي وتخلفنا التنموي، وما ترتب عليهما من انقسام سياسي واجتماعي حاد، إذ لا معنى للمصالحة الوطنية من دون معالجة جذور المشكلة، فالتوقف كثيرا عند بعض أعراض الأزمة السياسية أو محاولة طمطمة بعض قضايا الفساد السياسي والمالي، التي برزت مؤخرا، من دون البحث في أصل المشكلة التي أوصلتنا لما نحن فيه هو تضييع للوقت والجهود، حيث ستعود الأزمة السياسية للبروز من جديد بشكل أكثر حدة.

Ad

المصالحة الوطنية الجادة تتطلب أيضا مشاركة الشعب في جميع الترتيبات والنقاشات، بحيث لا يقتصر نقاش الأزمة السياسية الخانقة والبحث عن مخارج على دوائر نخبوية أو سياسية ضيقة وبمعزل عن المشاركة الشعبية.

في يونيو 2012 كتبنا في هذه الزاوية ما يلي:

"مازلنا ندور في الحلقة المفرغة ذاتها، فما كان يفترض إنجازه في منتصف ستينيات القرن الماضي، وهو تطوير نظامنا الدستوري واستكمال بناء الدولة الدستورية الديمقراطية، لم ينجز حتى هذه اللحظة... لقد بدأت المشكلة التي مازلنا نعاني تداعياتها وآثارها ونتائجها عندما تصدت قوى متنفذة داخل النظام وخارجه لمشروع الدولة الدستورية الذي دشنه دستور 1962، لأنها ترى أن هذا المشروع سيقلص نفوذها، وسيضر بمصالحها لأنه ينص، صراحة، على أن «نظام الحكم في الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً». لهذا فقد وقفت هذه القوى المتحالفة ومازالت ضد استكمال بناء الدولة الدستورية الديمقراطية التي يكون فيها فصل واضح بين السلطات، ومواطنة دستورية متساوية، وعدالة اجتماعية، وحريات عامة، بل إنها انقلبت على الدستور في السابق، ولأكثر من مرة حينما رأت أن الظروف السياسية مناسبة، وترتب على ذلك تعطيل الحياة البرلمانية وتهميش القوى والتيارات الوطنية الديمقراطية التي تدعو في خطابها وبرامجها السياسية إلى الدولة المدنيّة الجامعة التي ينص عليها الدستور، بينما فتح الباب واسعا لقوى انتهازية وطائفية وقبلية لتسيد المشهد السياسي.

من هذا المنطلق، فإنه لا مخرج لأزمتنا السياسية المحتدمة إلا باستكمال بناء الدولة الدستورية الديمقراطية، وهذا يتطلب التصالح أولاً مع الدستور وتطبيقه كاملاً، أي التصالح مع نظام الحكم الديمقراطي الذي تكون فيه السيادة للأمة فعلاً، خصوصاً أن النموذج المعمول به حتى الآن قد ثبت فشله الذريع المرة تلو الأخرى".

والآن بعد مضي عامين ها نحن مازلنا ندور في الحلقة المفرغة ذاتها، لأن التصالح مع الدستور، أي مع نظام الحكم الديمقراطي، لم يتم بعد، وهو ما يجب التركيز عليه في أي حديث جاد عن المصالحة الوطنية.