الخلاص!

نشر في 09-04-2014
آخر تحديث 09-04-2014 | 00:01
 طالب الرفاعي أنا من جيل فتّح عينيه ووعيه على حلم عربي كبير وملوّن بجميع ألوان الحب والحياة. حلم أن يكون وطني العربي من الخليج إلى المحيط. سارت بنا أيامنا، وشربنا شعارات مؤكّدة بأننا ننتمي إلى أمة واحدة تحمل رسالة خالدة، وأن كل ما يحيط بنا يؤكد مفهوم الوحدة والقومية العربية، وأننا شعب عربي واحد، قسّمه الاستعمار الآثم عنوة وظلماً، ولابدَّ أن نعمل على إعادة اللحمة بين أقطار الوطن العربي، وأبناء الأمة الواحدة، وبالطبع بعد استعادة فلسطين السليبة!

عشنا عمراً نشرب من ماء تلك الشعارات العذب صباح مساء، وكانت أروحنا ترتوي باتساع حلمها المؤمل، نردد خلف الشاعر فخري البارودي الأغنية:  بلادُ العربِ أوطاني من الشامِ لبغدان، ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مِصرَ فتطوانِ

فلا حدَ يباعدُنا ولا دين يفرّقنا، لسان الضّاد يجمعُنا بغسّانٍ وعدنانِ

حثّت أجيال عربية كثيرة المسير على درب العروبة والقومية، وكم قسا الدربُ على البعض من أهله، فأوجعهم، ومنهم من دفع عمره ثمناً لحلمٍ يلوح كالسراب! لكن هذا السراب أخذ يبتعد، حتى بدا أنه يتلاشى، فلا يبقى منه إلا وشوشة تعزّي الروح. فبعد أكثر من نصف قرن على بدء مسيرة الحلم، وبعد مئات الآلاف من الضحايا، وبعد عذابات شعوب ذاقت المرار والويل والفقر والعوز، بعد هذا وكثير كثير غيره، يأتي زمنٌ نتمنى فيه، نحن جيل العروبة، أن تبقى أقطار الوطن العربية محافظة على هيئتها وهيبتها ووحدة أراضيها. فقد اندحر الحلم، حتى تلاشى، وصارت غاية المنى، أن يبقى القطر العربي الواحد متماسكاً بتربته ووحدته، وألا يُقطّع بسكين الحروب الأهلية المتوحشة، ويغدو الوطن الواحد، أوطاناً متطاحنة! وتسيل دماء زكية ليس لها ذنب إلا أنها تعيش على أرض عربية!

أنا والكثير من أبناء جيلي، صاحبنا الفكر والفن والقراءة والكتابة، مؤمنين بأنها الصديق النصوح والمعين على فهم الواقع واحتمال مواجعه، وأنها زاد يبقى حاضراً وشهياً حينما يعزّ الزاد. لكن قصائد الشعراء، وقصص القصاصين وروايات الروائيين والمسرح والسينما والتشكيل، كل هذه الفنون مجتمعة، ومئات الخطب الرنانة، صارت تتغنى بحسرة على حلم الأحلام، وتنزف دمع ودم الخيبة على حلم ملوّن عبر كأنه لم يكن! حلم عربي تبخر على أرض الواقع العربي الصلدة والقاسية والمتوحشة. وصرت والكثير من أبناء جيلي نسر في أنفسنا في كل حين متسائلين: إلى أين تسير بنا سفينة الوجع والضياع اليوم، وأي موانئ غربة تنتظر وصولنا؟!

نعق بوم الشؤم في الكثير من سماءات أقطارنا العربية، وغدا العنف والدم والقتل مشهداً يومياً يغذي آلة

الإعلام المجنونة، ولم يبق لنا نحن جيل حلم الوطن العربي الكبير غير القراءة مهرباً للروح، والكتابة معبراً إلى الآخر. فلقد علا صوت السياسة المخادعة، والإعلام الكاذب، والفن الهابط، ولم يترك للمبدع إلا زوايا صغيرة يطلّ منها بكلمته، لكنها كافية لأن يبقى، ويخاطب الآخر، ويبز كذب السياسي بقول كلمةٍ تجد طريقها إلى القلوب المحبة.

الكتابة وحدها هي الخلاص! تواصلت مع كثير من الأصدقاء الكتّاب والفنانين العرب، في شتى بقاع الأرض، وبالرغم من كل غربتهم ومعاناتهم وألوان الألم التي تعتصر أرواحهم، فإن لسان حالهم المتوجع واليائس والمكابر، يجتمع حول المقولة: الكتابة خلاصنا!

الكتابة خلاص منْ لا خلاص لهم!

الكتابة بخفق القلب، مهرب منْ لا مهرب لهم!

الكتابة عزاء منْ لا عزاء لهم!

الكتابة تشبثٌ في شجرة الحياة!

الكتابة رسم لوجه مشرق على لوح الواقع الأسود!

الكتابة صوتٌ يرتفع في الفضاء، عله يواسي دمعة أم أو أخت أو حبيبة!

الكتابة حبٌ للوطن والأمة!

الكتابة خلاص!

back to top