بيرليوز (1803 ـ 1869)، الرومانتيكي الفرنسي، الذي عاش حياة عاطفية عاصفة، وشغل نفسه والناسَ، لم يفلت، شأن كثيرين، من إجحاف التاريخ وغفلته. فقد بقيت أوبراه «الطرواديون» مخطوطة في كراريسها الموسيقية على مرأى ومسمع من الحياة الموسيقية الكلاسيكية الغربية الصاخبة، سيمفونيته «الفانتازية» تتردد أصداؤها في كل ركن، ودون انقطاع، وكذا الأمر مع أعماله الأخرى التي لا تقل شهرة: «روميو وجوليت»، «لعنة فاوست»، «هارولد في ايطاليا»، و»طفولة المسيح». وكل واحدة منها تحفة عزيزة في الموروث الموسيقي.

Ad

 أمام هذا العرض الأخاذ الذي أشاهده على DVD، والذي قدمته «دار الأوبرا الملكية» في «الكوفنغاردن» العام الماضي، تشعر أن هذه الأوبرا تستعيد عافيتها، ومكانتها التي تستحقها.

الاوبرا رائعة، بل مدهشة، والنص الشعري الذي أعده بيرليوز نفسه عن ملحمة فيرجل «الإنيادة»، أعطى العمل الموسيقي مدى ملحمياً غايةً في تشعب الدلالات الرمزية، كان بيرليوز شديد التعلق بشعر الملحمة منذ تعلم اللاتينية في صباه على يد أبيه. وفي مرحلة النضج ظل يتحين فرصةَ هدوء من فورة مشاعره، التي لا تخلو من عتمةٍ والتباس، لكي ينصرفَ الى «فيرجل» الذي يحبه، ولم يُتحْ له ذلك الا في أواخر العمر، حين حصل على تكليف من عشيقة الموسيقى «فرانس ليست» الاميرة كارولين فيتجينستاين، فدفع نفسه في موج الملحمة الصخاب وأنجز عمله في سنتين.

الأوبرا في فصول خمسة، تتحدث عن حصار طروادة وتدميرها على يد اليونانيين. ثم عن هرب «إنياس بن بريام» ملك طروادة، وتجواله البحري ولجوئه الى قرطاج، حيث الملكة المدحورة المستوحشة «ديدو»، التي أعانها على أعدائها، وأحبا بعضاً حباً عاصفا. إلا انه سرعان ما اضطر الى هجرها، مأخوذاً بنداء باطني باتجاه ايطاليا. لأن القدر شاء ان يُلقي عليه مهمة بناء «روما» وتأسيس امبراطوريتها. هذا الهجران دفع بـ»ديدو» الى الانتحار، الأمر الذي شكل واحدةً من قصص الحب الخالدة، التي لم تتوقف الموسيقى عن استلهامها يوما.

حين أكمل بيرليوز»الطرواديون» لم تقبلها دار الأوبرا في باريس. المسرح الكوميدي الأقل شأنا قبلها بشرط أن تُقسّم، بسبب طولها، الى قسمين: «حصار طروادة» و»الطرواديون في قرطاج». ولقد قبل بيرليوز بهذا الشرط اضطراراً، رغبة منه في أن يسمع شيئاً منها قبل وفاته. إن التعلق الشديد من قبل بيرليوز بالشاعر الروماني الملحمي «فيرجل» يجاذبه تعلقٌ آخر، لا يقلّ شدةً، بالشاعر الدرامي شكسبير. ولم تكن حكاية بطل «السيمفونية الفانتازية» الا حكاية هاملتية تعكس تجربة حب مستلَبة. وفي هذه الاوبرا تتجاذب قوتا الملحمة والدراما مع بعض، وقوتا السكينة مع فورة الانفعال، وكذا قوتا السلام والحرب بصورة متواترة. ان الفصل الرابع موسيقى خالصة للحب من «إنياس»و«ديدو»، وخاصة في المشهد الذي يتواصل فيه اللحن الخماسي، الذي يصبح سداسياً ثم ثنائياً بين العاشقين.

في الفصلين الاول والثاني تتم الأحداث على أرض طروادة. والبطلة الرئيسية، الى جانب «إنياس»، هي أخته «كاسندرا»، التي ملأت الفصل الاول بهواجسها النبوئية المريعة. فهي وحدها التي لم تأمنْ انسحابَ اليونانيين عن حصار المدينة، تاركين وراءهم حصانهم الخشبي الكبير المثير للريبة. والفصول الثلاثة المتبقية تتم على أرض «قرطاج».

فضلت أن أصغي إلى الأوبرا في ليلتين متتاليتين، لكي أأمن وطأة الجهد الذي يمكن أن تخلّفه أوبرا على هذا القدْر من الضخامة، تمتد إلى أكثر من ساعات أربع. ضخامة بصرية تُضاف إلى الضخامة السمعية. فالموسيقى تنبش في المشاعر المحتدمة. وطبقاتُ المغنين الصوتية بالغةُ العدد والتنوع (4 تينور ـ 3 باريتون ـ 6 باص ـ 4 ميتسو سوبرانو ـ 1 آلتو). وضخامةُ الإخراج المسرحي تفوق المخيلة، خاصة بمشهد الحصان الذي يغطي أفق المدينة المحاصرة بالروْع والفزع. (يمكن الحصول على تفاصيل هذا الانجاز في موقع Royal Opera House).

ان طموح «إنياس» باتجاه ايطاليا، لبناء مدينة المستقبل «روما»، يشدّ الاوبرا باتجاه جاذبيةٍ قدريةٍ ملهمة، ولكنها مضمّخةٌ بالدم والآلام والأنانية أيضا. فقد خلّف وراءه طروادةَ المبادة، وبعدها خلّف قلب ديدو المحبة في قرطاج نهباً لليأس والموت. ولكن هل تَرفع الموسيقى الى الذرى غير الآلام الكبيرة؟