في آخر مقال من المقالات الثلاثة المنشورة على هذه الصفحة في الأسابيع الثلاثة الماضية تحت عنوان: هل يخرج السيسي من عباءة حكم العسكر؟(3) طرحت السؤال الوارد في عنوان هذا المقال.

Ad

وكانت إجابتي عن هذا السؤال سريعة مقتضبة أردت استكمالها في هذا المقال، بإلقاء الضوء على الظروف الداخلية والدولية التي قامت فيها ثورة 23 يوليو واختلافها عن الظروف التي قامت فيها ثورة 30 يونيو.

قضايا عالم 1952 لم تكن قضايا عالم 1952 منفصلة عما قبلها من حرب عالمية، كانت كلفتها عالية على الشعوب التي دمرتها الحرب وعلى العالم أجمع سواء القوة البشرية والاقتصادية.

فبات العالم ينادي بقضايا أساسية لعل أهمها في هذا السياق الامتناع عن أي تدخل في الشؤون الداخلية لبلد آخر.

ولا عزاء في دستور 1923 ومن هنا لم تشهد مصر أي تدخل أجنبي، عندما قامت حركة الجيش في 23 يوليو 1952، وأمرت على الفور بمنح المظاهرات وعندما خلعت الملك فاروق، وعندما أعدمت البقري وآخر من عمال كفر الدوار في محاكمة عسكرية لم تتوافر فيها أي ضمانات، وتشكيل المحاكم العسكرية لمحاكمة العسكريين والمدنيين، وغير ذلك من محاكمات أمام مجلس قيادة الثورة وأمام محكمة الغدر ومحكمة الثورة، وهي محاكم استثنائية.

ولم تشهد مصر تدخلا أجنبيا عندما أعلنت حركة الجيش سقوط دستور 1923 وحل الأحزاب السياسية، ووضع دستور مؤقت للبلاد لفترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، وتولى ضباط الجيش حكم البلاد.

تصفية الاستعمار كما كانت تصفية الاستعمار القضية الأساسية التي تشغل شعوب العالم بعد الحرب العالمية الثانية وظهور الأمم المتحدة.

وكانت حكومة الوفد قد ألغت عام 1951 معاهدة 1936، التي كانت تمثل الغطاء الشرعي للقوات البريطانية، التي تحتل مصر وتمنح هذه القوات الامتيازات السياسية والمالية التي كانت تتمتع بها في مصر، فامتنع العمال المصريون عن العمل في معسكرات الجيش البريطاني، كما امتنع المتعهدون والموردون المصريون عن تزويد هذه القوات بالمؤن والخدمات، وتطوع الشباب وطلاب الجامعات في كتائب لتحرير مدن القناة من هذه القوات، وكان اللواء عزيز المصري وغيره من قادة وضباط الجيش المصري القدامى يدربون الفدائيين.

واستطاع جمال عبدالناصر ورفاقه تحقيق الجلاء عن مصر، عندما غادر آخر جندي بريطاني الأراضي المصرية في 13 يونيو سنة 1956، عقب توقيع اتفاقية الجلاء في عام 1954.

تأميم قناة السويس وأخذ عبدالناصر على عاتقه مساعدة حركات التحرر العربي والإفريقي من الاستعمار، فكان العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم مصر لقناة السويس، ولم يكن التأميم بدعة ابتدعها جمال عبدالناصر، فقد سبقته إلى التأميم دول أخرى غربية، منها فرنسا وإنكلترا حيث خضعت مرافق أساسية في هذه الدول للتأميم مثل سكك الحديد والكهرباء، والمناجم وصناعة الفولاذ، كما أممت بعض دول الخليج شركات البترول.

وتلا العدوان الثلاثي حرب اليمن التي أنهكت الجيش المصري، ثم حرب الأيام الستة في 5 يونيو سنة 1967. وهي حروب شغلت ثورة 23 يوليو 1952 عن تحقيق أحد أهدافها، وهو إقامة حكم ديمقراطي سليم.

التحول الاجتماعي  وكان تحقيق العدالة الاجتماعية وإزالة الفوارق بين الطبقات هما أحد أهداف ثورة 23 يوليو 1952، وهي ما سعت إلى تحقيقه في الشهور الأولى لقيامها، بإصدار قانون الإصلاح الزراعي وتخفيض إيجارات المساكن والمحال التجارية، ومحاولة تنمية الاقتصاد الزراعي، من خلال إنشاء المجلس الدائم للإنتاج القومي الذي كان يضم خيرة الخبراء، حتى لا يؤدي تحديد الملكية الزراعية إلى ضعف إنتاجية الأرض الزراعية المحدودة، كما كان من أهداف هذا المجلس، تحقيق نهضة صناعية، وقد تلا ذلك إلغاء الأوقاف على غير الخيرات، وهي التي حولت المستحقين فيها بمضي الزمن إلى طبقة من الفقراء.

ثم مضى التحول الاجتماعي بقوانين يوليو الاشتراكية عام 1961، والتي كان تطبيقها في القطر الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة (سورية) الجسر الذي عبر عليه من انقلبوا على الوحدة بين مصر وسورية التي أعلنت في فبراير 1958، دون أن تكون قائمة على أسس سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.

غطاء المثقفين لغياب الديمقراطية وإذا كانت قوة شخصية جمال عبدالناصر والكاريزما المرتبطة بصفات جسمية معينة، ووطنيته وطهارة يده ومرورا بالانتصارات التي حققها، قد خلقت منه بطلا وطنيا وقوميا توسد قلوب الملايين من شعبه وفي كل أرجاء الوطن العربي، ودوى اسمه في سمع العالم كله، ولدى جميع حركات التحرر الوطني في هذا العالم، وانتهاء بأدوات الإقصاء التي كانت تمارس ضد المعارضين من المثقفين، قد حال كل ذلك دون تحقيق ناصر لحكم ديمقراطي سليم، وهو أحد أهداف ثورة 23 يوليو، كما كان هناك قطاع آخر منهم يدبر غطاء  للحزب الواحد المتمثل بهيئة التحرير وبعدها الاتحاد القومي وبعدها الاتحاد الاشتراكي العربي، وكان هذا الغطاء يتمثل بمفهوم جديد للحرية الحقيقية، وهو أنه إذا كانت الديمقراطية تعني الحرية السياسية، فإن الاشتراكية هي الحرية الاجتماعية، وأنه لا يمكن الفصل بين الاثنين لأنهما جناحا الحرية الحقيقية وبدونهما أو بدون أي منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق إلى آفاق الغد المرتقب.

ولكن سرعان ما كشفت هزيمة 1967 عن زيف هذا المفهوم، فقامت المظاهرات في الإسكندرية والقاهرة وغيرها من محافظات اعتراضا على الأحكام الهزيلة التي صدرت في قضية الطيران الذي ضرب في 5 يونيو 1967 على الأرض وفقدت مصر سلاحها الجوي، وطالب الشعب ببحث أسباب الهزيمة، واجتمعت الجمعية العمومية لرجال القضاء في 28 مارس 1968 لتطالب بإطلاق الحريات وإرساء مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء فكان بيان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في 30 مارس مؤكدا لهذه المبادئ، في برنامج تم الاستفتاء عليه يوم 2 مايو 1968، ليكون نقطة الانطلاق إلى مرحلة هامة في العمل الوطني نحو تحرير الأرض العربية وإزالة العدوان وآثاره، ونحو تأكيد ديمقراطية الشعب العامل في سيره نحو الاشتراكية، إلا أن النظام سرعان ما انقلب بعد عام واحد على هذا البرنامج في المذبحة المعروفة بمذبحة القضاء.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.