كانت تنتظر {طلة القمر} فيعاودها  حلمها القديم بأن تحصد لقب أم، ذلك الحلم الذي رافقها لسنوات طويلة تزوجت خلالها أكثر من مرة ولعدة سنوات، لكنها لم تحظ باللقب، انفصلت عن الأول، فيما رحل الثاني، وفي كل مرة لم تتوج علاقتها بثمرة تنعش أيامها ولياليها، إلا  أنها كانت راضية {بالمقسوم}، ولم تعترض يوماً على إرادة الله، لذا طالت سعادتها السماء والأرض طولها وعرضها حينما أخبرها الطبيب أنها، وبعد بضعة أشهر، ستنضم إلى نادي الأمهات.

Ad

راحت تعد الأيام وكلها شوق لأن تضم وليدها في حضنها وتمنحه كل ما في داخلها من محبة وحنان، وكان فوزي هو الآخر سعيداً، صحيح كان لديه ثلاثة أبناء من زواجه الأول، إلا أنه طالما تمنى أن يتوج زواجه من مديحة بطفل يضفي السعادة على حياتهما، لذا راح يستعجل شركة المقاولات التي عهد إليها ببناء فيلته الجديدة، وخطط أن يعيش فيها مع مديحة وأبنائه سواء الذين سينجبهم منها، أو الذين أنجبهم من زوجته الأولى، حرص على أن يترعرع الأولاد معا وهم على صلة و ثيقة ببعضهم البعض.

ومرت الأيام سريعاً وشرفت وفاء إلى الدنيا، صحيح في الشهر السابع وكانت الولادة متعثرة، إلا أن مديحة وفوزي سعدا بها، ولكن ما هي إلا ساعات حتى تبدلت كل هذه السعادة إلى حزن رهيب،  أخبرهم الأطباء أنها مصابة بعيوب خلقية ربما لا تؤهلها للحياة، وبالفعل ماتت وفاء بعد أيام قليلة لتتذوق السمراء الفاتنة أول جرعات الألم وتعرف أقسى معاني الفقدان، لم تتمكن من احتضان طفلتها كما كانت تحلم وتخطط، راحت تتأمل ملابسها وحجرتها وسريرها وكل الأحلام التي رسمتها مع وفاء، لذا عنونت أحد أول أفلامها السينمائية التي حملت توقيعها كمؤلفة إلى جانب التمثيل {وفاء}، واعتبره النقاد بداية لسلسلة من الأفلام الرومنسية التي قدمتها مديحة وشارك في بطولتها عماد حمدي، بعدما شكلا ثنائياً ناجحاً.

 وفاء الابنة والفيلم

حاول فوزي التخفيف عن زوجته بعدما فقدت طفلتها الأولى، فاصطحبها إلى الإسكندرية، معشوقتها، وهناك اجتهد كي تستعيد توازنها وتتجاوز محنتها وتتقبل إرادة الله، وفعلا بالإيمان والرضا تجاوزت مديحة أزمتها، ووجدت في العمل تعويضاً وهروباً في آن، لذا راحت تنشغل به. من جانبه قرر فوزي، عن طيب خاطر ورغم شرقيته، ألا يمنعها عن العمل، وألا يحتكرها فنياً لشركته، سمح لها بأن تشارك في أعمال أخرى لا يؤدي حتى بطولتها وليست من إنتاجه، فقدمت فيلمي {أولادي} و{من غير وداع}، الأول مع زكي رستم وشادية ومن إخراج عمر جميعي، الذي بدأ حياته مخرجاً مسرحياً قبل أن ينطلق سينمائياً، وقدم بضعة أفلام آخرها {أولادي}، وقد تٌوفي بعد عرضه، والثاني شاركها بطولته عماد حمدي وعقيلة راتب وكان من إخراج أحمد ضياء الدين في أولى تجاربه السينمائية.

 عمل ضياء رساما في بدايته، قبل أن يتجه إلى السينما في الأربعينيات، وكانت بدايته مع محمد كريم أحد أبرز رواد السينما، وقد ترك أفلاماً جيدة من أبرزها {المراهقات} مع الفنانة ماجدة.

وبعد عام من زواج مديحة وفوزي التقيا مجدداً في {من أين لك هذا؟} مع نيازي مصطفى، مخرج سينمائي بلغت أعماله 152 فيلماً روائياً وعشرات المسلسلات التلفزيونية، من أبرز أعماله: {عنتر بن شداد، جوز مراتي، رابعة العدوية، صغيرة على الحب، جناب السفير، أخطر رجل في العالم}. تمكن نيازي من أدواته كمخرج وثبت،  في وقت قصير، حرفيته واشتهر بتقديم أعمال فنية مرتبطة بالعنف والمعارك.

تمحور الفيلم حول وحيد، طالب في كلية الطب يعيش مع عالم اخترع مركباً كيماوياً يجعله غير مرئي، ويتعرف وحيد على سلوى فيقع في حبها وتبادله مشاعره، إلا أن والدها يرفض زواجهما ويرشح لها طاهر معتقداً أنه الزوج المثالي لابنته، في حين أنه تاجر مخدرات، ويستطيع وحيد، بفضل هذا التركيب الكيماوي عرقلة زواج سلوى، إلا أنه يتهم بتهريب المخدرات وخطف سلوى، من ثم يرشد البوليس إلى المجرم الحقيقي طاهر ويتزوج من سلوى.

بعد ذلك  قدمت مديحة أفلاماًبعيداً عن فوزي هي: {لحن الخلود} مع هنري بركات، {مؤامرة} مع كمال الشيخ، {آمنت بالله}، {أقوى من الحب}، {وفاء} مع عز الدين ذو الفقار، وهو الفيلم الذي كتبت مديحة قصته بنفسها كما أشرنا سلفاً، فيما عهدت بكتابة السيناريو والحوار إلى علي الزرقاني، روائي مصري عمل مترجماً قبل أن يتفرغ إلى كتابة السيناريو منذ 1948، وقد كتب أبرز الأفلام في السينما المصرية منها: {بابا أمين} أول أفلام المخرج يوسف شاهين.

شاركها بطولة {وفاء} عماد حمدي الذي لقب بفتى الشاشة الأول، ولد في مدينة سوهاج في صعيد مصر عام 1909 وتعلم فنون اﻹلقاء أثناء دراسته الثانوية في القاهرة على يد الفنان عبد الوارث عسر. ظهر للمرة الأولى سينمائياً في فيلم {عايدة} (1942)، لكن الجمهور عرفه على نطاق واسع في فيلم {السوق السوداء} الذي يعده النقاد أحد  الأفلام التي رسخت للمدرسة الواقعية في السينما المصرية، وفي الخمسينيات قدم عماد حمدي أفلاماً رومنسية حتى صار أحد أهم أعمدتها، من بينها: {ارحم حبي}، {بين الأطلال}، {لا أنام} و{إني راحلة}، كذلك أدى بطولة أفلام مهمة في السينما المصرية منها: {خان الخليلي} و}ميرامار} و{ثرثرة فوق النيل} لنجيب محفوظ، وكان آخر أفلامه {سواق الأتوبيس} (1983) مع عاطف الطيب قبل رحيله بأشهر عدة.

كيمياء مشتركة

لا تكمن أهمية فيلم {إني راحلة}  بوصفه مرحلة تحول مهمة في مشوار مديحة يسري الفني، واستعادت من خلاله مشوارها مع الإنتاج السينمائي بعد فترة توقف، لكنه بداية لدراما {صراع المشاعر} على حد توصيف الناقد نادر عدلي، وهي نوعية لم تعرفها السينما المصرية من قبل، وجاء المخرج عز الدين ذو الفقار ليفجرها بإحساسه الرومنسي  فلقّب بشاعر الكاميرا.

كانت مديحة سمعت من صديقاتها عن رواية {إني راحلة} التي كتبها الكاتب الكبير يوسف السباعي، إذ كانت إحدى أكثر رواياته رواجاً وشعبية، فاهتمت بقراءتها، وعندما فرغت منها قررت تحويلها إلى عمل سينمائي، وبالفعل توجهت إلى الهاتف واتصلت بمنزل السباعي لتسأل عنه.

عرفت مديحة السباعي جيداً خلال فترة زواجها من أحمد سالم، فكانت ثمة علاقة صداقة بين زوجها الراحل وشقيق السباعي الدكتور إسماعيل السباعي، فلم تتردد في الاتصال به لتسأله عن القصة.

مديحة: إزيك يا أستاذ يوسف.

السباعي: أهلا مين معايا.

ردت بثقة وثبات: أنا مديحة يسري.

السباعي وقد بدا على صوته الترحيب: أهلا... إزيك يا مديحة أخبارك إيه عاش من سمع صوتك.

مديحة: ربنا يخليك يا أستاذ يوسف، أنا قريت قصتك الأخيرة {إني راحلة} وعجبتني جداً وكنت عاوزة... بعد إذنك طبعاً نحولها لفيلم سينمائي، يا ترى إيه رايك؟

السباعي: والله يا مديحة مش عارف خليني أفكر وأردّ عليك.

مديحة بحسم: طيب تسمح لي أشرب مع حضرتك القهوة بكره ونتكلم في الموضوع ده؟

السباعي مرحبا: طبعا أهلا وسهلا، تشرفي وتنوري منتظرك بكره الصبح...

مديحة بسعادة: متشكرة يا أستاذ {أورفوار}.

في اليوم التالي أقنعت مديحة السباعي بتحويل القصة إلى فيلم سينمائي تؤدي بطولته وتنتجه أيضاً، لكنه رفض الحديث معها في الأمور المادية حتى وافق على تقاضي أجر رمزي عن قصة الفيلم، فيما أسندت مديحة مهمة الإخراج وكتابة السيناريو إلى عز الدين ذو الفقار، الذي تحمس للفيلم، وبدأ اختيار أماكن التصوير وبقية عناصر الفيلم، في مقدمها بطله الفنان عماد حمدي.

تقول مديحة: كان حمدي أحد أكثر الممثلين التزاماً في المواعيد وأصدقهم في الأداء التمثيلي، وكانت بيننا كيمياء مشتركة تنعكس على الشاشة، ما يفسر سر نجاح أفلامنا معاً، يضاف إلى ذلك أن رومنسيته أمام الكاميرا كانت تعجبني كممثلة وكمشاهدة أيضاً، لأنني أميل إلى هذه النوعية من الأعمال، وحتى آخر لحظة في حياته كنت إلى جواره، لأنه في الأصل كان جاري وفي أزماته الصحية كنت أبقى إلى جواره.

مواقف وطرائف

أدت مديحة دور عايدة المرأة المحبة التي تضحي بكل شيء من أجل حبيبها بما فيها حياتها، عندما قررت إثر رحيله المفاجئ أن تضرم النيران في الكوخ الخشبي الذي هربا للعيش فيه.

كانت مديحة سعيدة بتصويرها الفيلم، وفي غمرة تلك السعادة قررت أن تمازح  عماد حمدي في أحد المشاهد، وكان في أحد الشاليهات على شاطئ البحر، وكان يفترض أن تطهو {الكشري أبو دأة} الأكلة الشهيرة التي يحبها حبيبها أحمد وفقاً لسياق أحداث الفيلم، وفي هذا اليوم أحضر الإنتاج وجبات جاهزة من الكشري وتم وضعها بأواني الطهو لتبدو كأن عايدة تعدّها.

 ودارات الكاميرا في مشهد تبدو فيه عايدة تضع الطعام لأحمد في الطبق وهي تنظر إليه بسعادة وتقول:

عايدة: الكابينة دي هي الجنة اللي حنعيش فيها بعيد عن الألم والعذاب.

أحمد: يعني مش زعلانة أنها مقطوعة عن الدنيا كلها.

عايدة: أحسن وهو إحنا خدنا إيه من الدنيا... يالا دوق طبيخي، أنا عملت لك الكشري أبو دأة اللي أنت بتحبه.

أحمد: ياه تسلم أيدك ده أنا ح أموت من الجوع.

وهم عماد بتناول أول ملعقة حتى صرخ قائلا: {استوب... إلحقوني... إلحقوني... بقي مولع وملهلب}.

فاندهش عز الدين لثقته بأن أحداً لم يضع {شطه} في الكشري كما نبه على الجميع، ثم توجه ناحيته قائلا:

- جرى لك أيه يا عماد، أنت بتهزر ولا أيه.

عماد: أبداً والله يا أستاذ في حد حط كمية شطة مرعبة في الكشري.

عز الدين متعجباً: إزاي بس؟ ده أنا منبه على الإنتاج محدش يحط شطة.

عماد متألما: لو مش مصدقني خد دوق.

وبالفعل تذوّق عز الكشري ليبدأ هو الآخر في الصراخ، ثم التفت إلى فريقه المعاون وإلى فريق الإنتاج وبدأ يصيح فيهم متسائلا: مين اللي حط الشطة في الكشري؟

تكهربت الأجواء فيما مديحة كانت تقف في إحدى الزوايا غارقة في ضحكاتها، حتى انتبه إليها الجميع وسألها عز: أنت بتضحكي على إيه يا مديحة؟

تابعت ضحكاتها قائلة: أصل أنا اللي حطيت لكم الشطة، يالا معلش يا حمدي تعيش وتاخد غيرها.

ضجت كواليس التصوير بالضحك، فيما حاول عماد أن يطعم مديحة غصباً عنها ملعقة من الكشري {المولع}، وتضامن معه عز الدين، وبالفعل بدأ عماد يطاردها ومن خلفه عز وسط الضحك...

تتذكر مديحة موقفاً طريفاً حدث لها أثناء تصوير الفيلم وكان بسبب غيرة محمد فوزي، تقول:

تطلبت الأحداث أن يقبّلني عماد ضمن سياق الأحداث، وكما هو معروف عن فوزي أنه حمش ورجل شرقي، رفض أن أقدم هذا المشهد في الفيلم، وعبثاً حاولت إقناعه بضرورته درامياً لكنه رفض، ثم فوجئت به يتصل بعز الدين، وكان صديقاً لنا، كما كنا جيراناً لفترة،  لا سيما أثناء زواجه من فاتن حمامة.

فوزي: عز أنا قريت السيناريو ولقيت فيه بوسه بين مديحة وعماد حمدي، وده لو حصل حتكون قطيعة بيني وبينك للأبد.

عز مندهشا: في أيه بس يا فوزي، أنت فنان وعارف أن الموضوع مش بالصورة دي، كمان لو كنت قريت السيناريو كويس كنت اتأكدت من ضرورة وجود البوسة.

فوزي بحدة: أنا ماليش دعوة باللي أنت بتقوله ده، أنا راجل دمي حامي ومقبلش إن حد يبوس مراتي، ولو ده حصل لا أنت صاحبي ولا عاوز أعرفك تاني، مع السلامة.

قالها فوزي وأغلق الهاتف فيما ظل عز يضرب كفا بكف لا يعرف ماذا يفعل، وفي اليوم التالي عندما ذهبت إلى الأستوديو وجدت عز ينتظرني قائلا:

- عرفت اللي جوزك قاله يا مديحة.

مديحة مبتسمة: أيوه يا أستاذ، ده أنا بقالي يومين بحاول أقنعه لغاية ما فشلت.

عز: كلمني إمبارح بيهددني لو صورت البوسه حيقطع علاقته بي.

مديحة: وأنا كمان قالي حتبقى مصيبة لو ده حصل، وأنا مش عارفة أعمل إيه يا أستاذ؟

ثم تابعت مديحة قائلة: اعمل اللي تشوفه صح، فوزي صديقك والسيناريو ملكك.

 وظل عز في حيرة لوقت كبير إلى أن توصّل إلى حل لهذه المشكلة، فلقد كان في الأستوديو جذع شجرة وكان ضمن الأحداث أن عماد حمدي يحاول الإمساك بي، فطلب المخرج أن أدخل خلف جذع الشجرة فيما عماد يدخل من الناحية المقابلة وكأنه يقبلني، وبالفعل حل عز بذكاء المشكلة، وأصاب عصفورين بطلقة واحدة ، فمن ناحية نفذ المشهد لضرورته الدرامية، ومن ناحية أخرى أرضى صديقه وحافظ على شعوره.

لهذا الفيلم الكثير من الذكريات التي لا تبارح ذاكرة مديحة تقول: {وفقاً لأحداث الفيلم كان لا بد من أن تشتعل النيران في الكوخ الذي هربت إليه عايدة وأحمد، وبالطبع لم نكن نستطيع حرق الشاليه الأصلي لأنه كان ملكنا أنا وفوزي، لذا شيد عز شاليه مماثلاً له في القسم الخارجي لأستوديو مصر، ليتم حرقه بطريقة فتوقد فيه النار في كل جنباته وتأتي عليه، ولتنفيذ ذلك كان لا بد من تمرير مواسير فيها ثقوب، تمر تحت السرير والدولاب والموبيليا، وبالفعل وضعوا خيشاً مبللاً بالغاز على الجدران والسقف وجميع حوائط الشاليه، وكان مطلوب مني أن أقف وسط الشاليه والنيران تبدأ في الاشتعال، وكان فريق العمل يبعد عني أكثر من 20 مترا، وعربات المطافئ تحيط بالمكان و.}.

فماذا حدث؟

البقية في الحلقة المقبلة