هل يندرج وضع المسلمين اليوم تحت بند الفتنة؟
لم نصل إلى حد الفتنة الكبرى التي يتقاتل فيها المسلمون، ولكن ينبغي ونحن نتعامل مع الأجواء التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم أن نعي جيداً خطورة وصول الصراع بيننا إلى ما يشبه أحداث الفتنة الكبرى، لخطورة ذلك على مستقبل الأمة. ويكفي أن نشير إلى أن أحداث الفتنة الكبرى التي نشبت بين الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان، ما زالت تلقي بظلالها على الأمة حتى اليوم، حيث كان لبدء الصراعات السياسية في الدولة الإسلامية، إبان الفتنة الكبرى وقيام الدولة الأموية، وما ترتب عليها من العزلة بين الزعامة السياسية والزعامة الفكرية الإسلامية، أثره في تدهور عطاء الفكر الإسلامي من الاجتهاد والمبادرة والابتكار في مرحلة مبكرة من تاريخ الأمة، وما نشهده اليوم قريباً من ذلك إلا أننا لم نصل إلى حد الفتنة الكبرى بعد.كيف ترى الصراع السياسي سبباً في أحداث الفتنة التي يعانيها الجميع؟انظر إلى حال المسلمين اليوم ستجدهم يتصارعون سياسياً، وسرعان ما يدخل الدين طرفاً في المعادلة، ويتبادل الجميع الاتهام بالكفر، ولهذا لا بد من تدارس قصة الفتنة الكبرى، وكيف تسببت بخسارة المسلمين الذين دفعوا ثمناً غالياً بسببها، والذي يثير الأسى أن الكثير من المسلمين لم يحاولوا دراسة قصة الفتنة، والاعتبار من نتيجتها الوخيمة على التاريخ الإسلامي كله، وما زلنا نتعامل معها على أننا فريقان وكل فريق يدعي أنه صاحب الحق. أما محاولة الاستفادة فقد ذهبت أدراج الرياح، ولهذا لا بد من الحرص الشديد من كل مسلم وعدم الالتفات إلى أهل الفتن ومكائدهم. وعلينا ألا نكرر هذه التجربة. عسى الله أن ينجينا من هذا السوء.ما علاقة ذلك بثورات الربيع العربي؟تمر الأمة الإسلامية اليوم بأسوأ حالاتها، ورغم ثورات الربيع العربي التي ظننا جميعاً أنها ستسهم في إيقاظ المسلمين من ثباتهم، فإن الواقع جاء على عكس ذلك، وليس العيب في من قاموا بالثورة، بل في الكتلة الساكنة التي انبهرت بالثورات ولم تتفاعل معها مما حوَّلها إلى فتنة فعلاً، ما يعني أن ثقافة الأمة المعاصرة فيها خلل يحتاج إلى إعادة نظر لتصبح بالفعل خير أمة أخرجت للناس. نعم، يحمل الإسلام رسالة للإنسانية جمعاء وليس إلى أقوام بعينهم، وعلينا أن نعرف كيف كان يعيش المسلمون الأوائل في صدر الإسلام بإمكانات محدودة ومع ذلك استطاعوا نشر الإسلام في العالم بالحكمة والموعظة الحسنة. أما اليوم فالأمة الإسلامية أصبحت بمواردها وإمكاناتها كافة على هامش التاريخ.هل ثمة عدو خارجي يتربص بنا ويعمل على نشر أجواء الفتن؟سعى كل من الغرب والكيان الصهيوني فعلاً إلى إضعافنا بشكل أو بآخر، ولكن من حاول إضعافنا لم يدر أنه يضر بنفسه أيضاً. أرى أن أضرار تخلف الأمة الإسلامية وضعفها وتمزقها وعجزها وقصور أدائها والصراع المذهبي والطائفي الذي انتشر داخلنا، لم تؤثر على أبناء الأمة الإسلامية وحدهم، ولكن الأثر السلبي امتد إلى حجب نور رسالة الإسلام العالمية وهدايته الكلية الروحية الأخلاقية، ولهذا فنحن آثمون ليس لتقصيرنا في تطبيق الإسلام فحسب بل ولحرمان البشرية من فوائد تطبيقه. ولنقارن بيننا وبين أجدادنا الذين جاهدوا في الفتوحات الإسلامية لنشر نور الإسلام في العالم، وأقاموا أعظم حضارة في تاريخ البشرية، لأنهم كانوا يشعرون أنهم أصحاب رسالة.ماذا عن الخطاب الطائفي الذي ينتشر بيننا من دون وجود خطاب إسلامي معتدل؟نحن بحاجة إلى خطاب إنساني فطري فاعل لا خطاب إسلامي معتدل. إذا وجدنا هذا الخطاب وتم تفعيله فستختفي السلبيات من حياتنا. كذلك تعوزنا عودة الفكر الاجتماعي وتوظيف المعرفة الاجتماعية. باختصار، علينا إحياء علوم الدين، ليرتبط العلم بالعمل، وإذا فعلنا ذلك فستختفي الفتن والطائفية من حياتنا.كيف ترى الخطاب الديني الموجه إلى المسلمين اليوم؟خطاب سيئ وضعيف وطائفي، ولا يحض على التزكية التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم ليحسن من سلوك المسلمين. للأسف أيضاً، فإن المسلمين توقفوا منذ زمن طويل عن تنزيل آيات القرآن على واقعهم، فتخلفوا وتأخروا. مثلاً، سمعت منذ أيام قليلة واعظاً يفسر سورة «الماعون»، وعندما وصل إلى قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ» (الماعون: 4-5)، أخذ يوظف آيات هذه السورة على من يقصر في صلاته فحسب، رغم أن المعنى الشامل والأعم لهذه الآية أن الله رصد الويل والثبور لمن سهى عن قيم الصلاة، وهي النهي عن الفحشاء والمنكر والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهذا يدلنا على أن المسلمين بحاجة اليوم إلى خطاب إسلامي ثقافي مغاير للخطاب الراهن. فالخطاب الإسلامي الصحيح يجب أن يتضمن قيماً تحث على حسن التربية والسلوك والإيمان بأنه لا يوجد فاصل بين التربية المادية وبين التربية السلوكية، والإيمان بأن الله سيرضى عن الإنسان فقط عندما يحقق هذا الإنسان ذاته بالطريقة الصحيحة، وعلى الإنسان أن يعمل على أن تنعكس هداية القرآن الكريم على تصرفاته وسلوكياته، ليكون متكاملاً حتى تتحقق قيمة الأمة، فلا قيمة للأمة إذا لم يكن أفرادها أسوياء.ما توصيفك لحال الأمة الإسلامية في ضوء أزمتها الحالية؟أشبه حال المسلمين اليوم بحال بني إسرائيل عندما استعبدهم فرعون، وخرج بهم نبي الله موسى إلى سيناء، ففتنوا بالحرية التي منحها لهم الله تعالى. قال لهم موسى: «لندخل أرض فلسطين»، فقالوا له «إن فيها قوماً جبارين»، «فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» (المائدة: 24). وهذا كان خطاب العبيد الذين خرجوا من مصر، ولكن أخلاق العبيد كانت وما زالت مسيطرة عليهم فكان لزاماً على بني إسرائيل أن يهتدوا ويتطهروا، فكان عقاب الله تعالى عليهم بالتيه، وأن يتيهوا في أرض سيناء أربعين عاماً، حتى يخرج من بينهم جيل جديد نشأ على الحرية، ونسى تصرفات العبيد. وقد نجح هذا الجيل تحت قيادة نبي الله يوشع بن نون، في دخول القدس وتحريرها من أيدي الكفار. ونحن اليوم نشبه بني إسرائيل، فكلما تعرضنا لموقف ما نقول نحن عاجزون عن التصرف بسبب الشرعية الدولية والأمم المتحدة وخلافه، وهكذا ضاعت العراق وأفغانستان، ومن قبلهما فلسطين. ونحن نكتفي بالمشاهدة لما يحدث لإيران وسورية ولبنان. لدينا قائمة كبيرة مما يجب أن نفعله، ولكن نقف مكتوفي الأيدي فإذا كنا نريد النهضة، فعلينا أن نعلم أبناءنا الحكمة ونزكيهم، كما قال الله تعالى في القرآن الكريم.هل الفتنة ابتلاء؟نعم الفتنة ابتلاء كبير من الله لعباده، لأنها تكون في ما خفى وجهه والتبس على الناس فيختلفوا فيه، فإذا اختلفوا أدى ذلك إلى خلاف يبدأ بالكلام والسباب واللعن والطعن وينتهي بالشجار والقتال والدم، فإذا سالت الدماء زادت واتسعت هوة الخلاف فيسقط الجميع في بئر الفتنة «أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ» (التوبة: 49). هكذا ندور في دائرة لا يمكننا الخروج منها فلا يسمع أحد لغير رأيه ولا يسمح لقول غير موافق لهواه، ولذا نجد أن محاولات التوفيق والتصالح كافة لا تخرج أبداً إلى حيز التنفيذ بل لا يسمح بمناقشتها أو التفاهم حولها، وفي ذلك قيل: إذا وقعت الفتنة عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء.كيف نواجه الفتن التي تنتشر كقطع الليل المظلمة؟التصدي لكل محاولات زرع الفتن سواء الطائفية أو العرقية أو السياسية في صفوف المسلمين، يكون بالرجوع إلى المنهج الإسلامي الذي لا يبيح استخدام العنف والقتال داخل كيان المجتمع الواحد مهما كانت الأحوال. فالإسلام هو دين السلام القائم على الإخاء والتراحم والعدل والتكافل والشورى والإصلاح وعلى حس المسؤولية ليس في بعده المادي في هذه الدنيا بحكم القانون، ولكن أيضاً في بعده الروحي في الأبدية والحياة الأخروية، فهو لا يقر بحال من الأحوال الظلم والعدوان والاستبداد، وهو في الوقت نفسه لا يفسح مجالاً في مجتمعه للعنف في إدارة سياسة المجتمع، فالإسلام لا يرضى الظلم والطغيان، ويدعو إلى مقاومته بالأساليب الصحيحة المناسبة، ويؤسس للأساليب السياسية والمدنية لإقامة ركائز حكم الشورى العادل وليس بالعنف وسفك الدماء، وبذلك كله يحمي الإسلام المجتمعات الإسلامية من شرور الفتن والانقسام. من هنا، كان لا بد للجميع من أن يعودوا إلى القرآن الكريم وسنة النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا أرادوا أن يتجنبوا الفتن قبل أن تأكل الأخضر واليابس.ماذا عن غربتنا الحضارية وأسباب تراجعنا عن سباق العصر؟يجب أن ندرك أن ابتعادنا عن ديننا الإسلامي هو الذي ساهم في غربتنا الحضارية التي نعيشها اليوم، وساعد في انتشار الفتنة، ولنا في المواطن الغربي العبرة والعظة في ذلك. فتراه شرساً متعصباً للونه وقوميته رغم ما حققه من تقدم مادي وحارب الدين بعدما أصبح أسيراً للماديات فحقق فيها النجاح. إلا أنه فشل في الحفاظ على كرامة البشر من غير أجناسهم أو قومياتهم. على عكس الإسلام الذي حارب أشكال التمييز والتفرقة بين البشر بسبب الجنس أو اللون أو اللغة. وللأسف، فإن المسلمين بدلا من الاستفادة من هذه القيم تأثروا بالعنصرية الغربية، فتفتتوا وانتشرت بينهم أفة التعصب. لا بد من تصحيح المفاهيم المغلوطة التي تعانيها الأمة. هل يعقل أن الأمة التي يأمرها دينها بالعمل ويبلغ عددها أكثر من مليار وربع المليار، وغنية بالثروات الطبيعية، تتفوق عليها اليابان التي اهتمت ببناء البشر رغم فقرها في الموارد، ويزيد إنتاجها 11 ضعفاً عن إنتاج الأمة المسلمة كلها.لكن ثمة صحوة دينية واضحة في ربوع الأمة؟نعم، ثمة صحوة إسلامية ولكنها شكلية تقتصر على العبادات ولم تخرج إلى حيز التطبيق، فالمواطن المسلم يدخل إلى المسجد خمس مرات في اليوم، ولكنه يخرج من المسجد من دون أن يستفيد شيئاً. وثمة خطاب دعوي قائم على الجحود لا على الحب، فنحن مثلاً نقول للطفل «لا بد من أن تحب الله»، فيسأل «من هو الله؟»، وبالطبع لأنه لا يراه لا يشغل نفسه بالتفكير. ولكن لو قلنا له إن الله يحبه، فالطفل في هذه الحال سيفرح أن ثمة من يحبه ويبدأ بالتفكير فيه. وهكذا، لا بد من أن يتغير خطابنا التربوي والدعوي إذا كنا نهدف إلى بناء حضارة حقيقية، ولا بد من أن نعي أيضاً أن ضعفنا لم يضر أمتنا فحسب بل أضر بالحضارة الإنسانية كلها.في سطورولد الدكتور عبد الحميد أبو سليمان في مكة المكرمة عام 1936، تلقى تعليمه في المملكة العربية السعودية، حيث حصل على البكالوريا ثم الماجستير عام 1961. توجه بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث أعد رسالة الدكتوراه التي ناقشها في جامعة بنسلفانيا في العلاقات الدولية عام 1973.عاد بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية، حيث عمل أميناً لاجتماعات المجلس الأعلى للتخطيط، ثم عضواً في هيئة التدريس في كلية العلوم الإدارية في جامعة الملك سعود في الرياض ورئيساً لقسم العلوم السياسية فيها.والدكتور أبو سليمان أحد مؤسسي اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية وكندا، والاتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية والأمين العام المؤسس للأمانة العامة للندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض في السعودية، والرئيس الأول ومؤسس للمعهد العالمي للفكر الإسلامي والمؤسس والرئيس الأسبق لجمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية وكندا، ومؤسس ومدير الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا (1988-1999).صدرت له كتب ودراسات عدة من بينها: {نظرية الإسلام الاقتصادية: الفلسفة والوسائل المعاصرة} (1960)، {السياسة البريطانية في عدن والمحميات ما بين عام 1799 وعام 1961} (رسالة ماجستير) 1963، {النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية} (1973)، {أزمة العقل المسلم} (1986)، بالاشتراك {إسلامية المعرفة: الخطة والإنجازات} (1986)، {العنف وإدارة الصراع السياسي في الفكر الإسلامي بين المبدأ والخيار: رؤية إسلامية} (2002)، {قضية ضرب المرأة وسيلة لحل الخلافات الزوجية!} (2003)، {أزمة الإرادة والوجدان المسلم} (2004)، {الإصلاح الإسلامي: الثابت والمتغير، تجربة الجامعة الإسلامية} (2004)، {الإنسان بين شريعتين} (2005)، {جزيرة البنائين}: قصة عقدية تربوية (للصغار والكبار)، {كنوز جزيرة البنائين}: قصة عقدية تربوية (للشباب والكبار)، {إشكالية الاستبداد والفساد في الفكر والتاريخ الإسلامي (2007)، {الرؤية الكونية الحضارية القرآنية} (2009).
توابل
المفكر الإسلامي د. عبد الحميد أبو سليمان: الحرية تحولت إلى فتنة بعد الربيع العربي
14-07-2014