في 24 نوفمبر الماضي، أصدر الرئيس المصري المؤقت عدلي منصور قانون تنظيم الحق في التظاهر، وهو القانون الذي شهد انقساماً كبيراً إزاءه، خصوصاً بين النخب التي أيدت إطاحة حكم "الإخوان" في مصر.

Ad

لقد كنت أحد الذين تفهموا الحاجة إلى ضرورة إصدار مثل ذلك القانون، خصوصاً أن تنظيم "الإخوان" يواصل سياسة واضحة لإنهاك الحكومة، وتعويق الدولة، والضغط على أعصاب المواطنين، بسلسلة من التظاهرات الصغيرة المتكررة، التي تستهدف أساساً تعطيل المرور أو إثارة الذعر في نفوس المواطنين، دون أن تنطوي على أي رؤية سياسية أو تدافع عن مشروع محدد.

وبوصفي عضواً في المجلس القومي لحقوق الإنسان، فقد تلقيت مع زملائي مسودة القانون قبل إصداره لإبداء تعليقات المجلس عليه، وبالفعل فقد رأى المجلس ضرورة إصدار مثل هذا القانون، لكنه نصح بإدخال 14 تعديلاً عليه، منتقداً مواد وصفها بأنها "تعوق الحق في الاعتصام، وتغلظ العقوبات على جرائم تعاقب عليها قوانين أخرى، وتقيد حق التظاهر بمجرد الإخطار، لأنها تسمح للأمن بمنع التظاهرة لمجرد استشعاره عزمها خرق القانون". يتظاهر طلاب جامعة الأزهر بانتظام منذ تراجعت قدرة "الإخوان" على حشد التظاهرات في الشارع بسبب قلة الأعداد وتربص الأهالي بهم، لكن تظاهرات طلاب الأزهر بدأت تأخذ طابعاً حاداً وعنيفاً، وبعدما اعتدوا على الأساتذة والمنشآت الجامعية، راحوا يخرجون بانتظام خارج سور الجامعة ويعتدون على المارة أو يقطعون السير.

في الأسبوع الماضي، اعتدى العشرات من متظاهرات ومتظاهري الأزهر على حافلة مدرسية كان نجلي من بين ركابها. ونتج عن الحادث تهشم الحافلة بالكامل، وإصابة تسعة تلاميذ في المرحلة الإعدادية، بينهم تلميذ في حالة خطرة.

كان التلاميذ عائدين من المدرسة في نهاية اليوم الدراسي، حينما هاجمتهم عشرات الفتيات المنتقبات والشبان الغاضبون وألقوا على حافلتهم وابلاً من الحجارة ليهشمها تماماً.

لقد خرج نجلي من هذا الحادث بقناعة تامة عن ضرورة التصدي بحزم لمثل تلك التظاهرات، بعدما أكد لي أنه يعتقد جازماً أنها ليست سوى "عمل إرهابي"، وهو أمر بدا متناقضاً مع موقفي السابق من ضرورة صيانة الحق في التظاهر. تشهد التظاهرات التي ينظمها تنظيم "الإخوان" خروقات واسعة ودامية، وتنتهك القوانين، وتعرض سلامة المواطنين للخطر، وهي تأتي متزامنة مع أحداث إرهابية خطيرة وسافرة، مثل تفجير مقار الجيش والشرطة، أو اغتيال رجال الأمن، أو الاعتداء على المنشآت الحيوية.

تضع تلك الأحداث المدافعين عن الحريات السياسية في موقف حرج، وتثير التساؤلات عن ضرورة سن القوانين الاستثنائية في تلك الأجواء الاستثنائية.

في مقاله "الوجوه المتغيرة للحرب"، المنشور عام 1989، في مجلة "قوات المارينز"، كتب الخبير الاستراتيجي الأميركي وليام. إس. ليند الفقرة التالية: "يستخدم الإرهابيون أبرز نقاط قوة المجتمع الحر، أي جو الحرية والانفتاح، ضد ذلك المجتمع. فهم يستطيعون التنقل بحرية داخل مجتمعنا، بينما يسعون إلى تخريبه. وهم يستخدمون الحقوق الديمقراطية لدينا؛ لا لاختراقنا فحسب، بل للدفاع عن أنفسهم، وإذا طبقنا عليهم قوانيننا، فإنهم يحصلون على الحماية، وإذا أطلقنا عليهم النار فوراً، فإن نشرات الأخبار المصورة ستجعلهم بكل سهولة يبدون كضحايا، فهم يستطيعون شن حربهم بكل فعالية، في حين يوفر المجتمع الذي يهاجمونه الحماية لهم، وإذا استثنيناهم من الحماية التي يوفرها نظامنا القضائي، فإنهم يحققون نصراً من نوع آخر، لأنهم يصبحون آنذاك في صورة الضحايا المضطهدين".

إنها معضلة حقيقية تلك التي يتحدث عنها ليند؛ وهي معضلة تطرح فرضية يسهل إثباتها جداً. الفرضية تقول: "يستفيد الإرهابيون من سمات المجتمع الديمقراطي الحر في العمل على تقويضه والإضرار به".

تطرح تلك المعضلة سؤالاً مهماً أيضاً: "كيف يمكن أن يحافظ المجتمع الديمقراطي الحر على حقوق الإنسان الفرد وقيم الديمقراطية، ويواجه الإرهاب في آن واحد؟".

إن مصر تواجه الإرهاب. تلك حقيقة يمكن إثباتها ببساطة، ليس فقط من خلال الأحداث التي تقع في سيناء ومدن القناة، حيث يُقتل جنود الجيش وضباطه، وتستهدف قوات الشرطة، وتُطلق القذائف على الكمائن والمواقع العسكرية والأمنية، ولكن أيضاً في الوادي، حيث تُروع الدولة، وتستهدف سلطتها، وتُقطع الطرق، ويُفزّع الجمهور، ويتعهد "الإرهابيون" بشل الحركة، أو مهاجمة المدارس، أو "غلق مصر لحين عودة مرسي".

تريد الدولة أن "تواجه الإرهاب"، لأن هذا دورها، وتلك مسؤوليتها. ويريد الجمهور البسيط أن يعيش في أمان من دون تهديد ولا ترويع، وأن تستقر الحياة ليواجه مطالبها التي لا تنتهي، وذلك منتهى أمله. وتريد الجماعات السياسية المعارضة أن تصل إلى الجمهور وتستميله، وهذا حقها. ويريد بعض النخب والسياسيين والحقوقيين والمثقفين أن يحافظوا على الوجه المدني للدولة، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، وآليات الديمقراطية، وهذا واجبهم. ويريد "الإرهابي" أن يقوض كل هذا ويشعل النار فيه، وهذه طبيعته.

كيف يمكن تحقيق التوازن بين كل ما سبق، في وقت يعكس فيه إرادات متصارعة في أحيان، ونزعات إجرامية في أحيان أخرى، ومطالب متناقضة غالباً؟  كيف سندعو السائحين، ونحن غير قادرين على توفير الحماية لهم؟ وكيف سنرحب بالتحويلات والتدفقات الاستثمارية ونحن نريد أن نقيدها ونخضعها للفحص لأنها قد تحوي تمويلاً خارجياً لـ"الإرهابيين"؟ وكيف ستدور عجلة الإنتاج، والعمال لا يستطيعون استخدام "مترو الأنفاق" في الوصول إلى مقار أعمالهم، لأن "الإرهابيين" قرروا تعطيله أو تفجيره أو مجرد الإيحاء بذلك؟ كيف نوفر الحرية والحماية لهذا المواطن الذي حوصر في بيته، ودُمرت ممتلكاته، وحُرق معبده، وفُرضت عليه "الإتاوة"، وحُرم من أداء شعائر عبادته مطمئناً، والخروج في نزهة مع عائلته إلى حديقة قريبة من المنزل، في الوقت الذي كنا مشغولين فيه بتوفير الحرية والحماية لأخيه المواطن، الذي قرر أن يفعل كل ذلك، في إطار محاولته لـ"التعبير عن رأيه"، وفرض إرادته السياسية؟

إذا كنت من الذين يسافرون كثيراً مثلي، فلعلك تدرك الآن أن الإجراءات الأمنية المطبقة في مطارات العالم كلها تتراوح في شدتها مراوحة كبيرة؛ فأحياناً تكون سلسة وميسرة وبسيطة إلى حد أنك لا تشعر بها، وأحياناً أخرى تكون جادة ومتسلطة إلى حد أنها قد تخرجك عن شعورك وربما تجعلك تقرر الإحجام عن السفر.

هو المطار نفسه، في الدولة ذاتها، لكن التهديدات الإرهابية تنعكس في إجراءات على الأرض، والهدف واضح وواحد: "حماية المواطنين وصيانة أمن الدولة"، ثم أي شيء آخر.

لا تفرط دول العالم الحر، ولا تتساهل أعتى الديمقراطيات، ولا تتلكأ أعظم الدول في اتخاذ التدابير اللازمة لحماية المواطنين وصيانة الأمن والحفاظ على مقدرات الدولة في إطار سيادة القانون.

جميع دول العالم الحر تسن قوانين استثنائية لمواجهة المخاطر الاستثنائية، وأفضل تلك الدول يطبق تلك القوانين بصرامة ومن دون أي تساهل أو مماطلة.

ما المطلوب من دولة محترمة حرة تواجه خطراً إرهابياً سافراً؟

أولاً: مراجعة قوانينها الاستثنائية لضمان أن تفي بالوسائل اللازمة لمواجهة ذلك الخطر.

ثانياً: تفعيل القوانين الاستثنائية بكل دقة وصرامة طالما كان الخطر قائماً.

ثالثاً: امتلاك رؤية واضحة معلنة عن حالة الحريات والإجراءات التي ستكون نافذة وفاعلة ومصونة بمجرد هزيمة الخطر الإرهابي.

رابعاً: مصارحة الجمهور بالحقائق غير المصنفة سرية في هذا الإطار، وإحاطته بدوافع القرارات والإجراءات الاستثنائية، وإعلان نتائج التحقيقات الكاشفة بشفافية، ودعمها بالوثائق كلما أمكن.

خامساً: رصد وتوثيق حالات الانتهاك التي تقع من السلطات خارج حدود القانون، ومحاسبة المخطئ.

تواجه مصر إرهاباً فاجراً مدعوماً من الخارج، وهو يستهدف تقويض الدولة وإشاعة الفوضى، ويجب على الدولة مواجهته بكل صرامة، ولها في ذلك أن تطبق القوانين الاستثنائية المعنية، وسيكون لذلك تأثير سلبي على نسق الحريات الذي نأمله، والذي يجب أن تتعهد الدولة بتفعيله، بمجرد دحر الإرهاب، وسنقوم نحن بمراقبتها ومحاسبتها، إن هي قصرت في هذا أو ذاك.

* كاتب مصري