الهند لا تتصرف كقوة عظمى
في الأسبوع الذي تلا توقيف شرطة نيويورك ديفياني خوبراغيد، نائبة القنصل الهندي، وتفتيشها بسبب كذبها المزعوم في طلب تأشيرة خادمتها، ردت الحكومة الهندية بسلسلة من الأعمال الانتقامية التافهة المتفاقمة. صحيح أن هذا لا يُعتبر الخلاف الدبلوماسي الأبرز هذه السنة أو حتى هذا الشهر، إلا أنه يُشكل إشارة معبرة إلى السرعة التي تتخلى بها الهند عن رغبتها في أن تُعامل كقوة عظمى، رغبة طالما عبرت عنها. صحيح أن القادة الهنود يديرون بلداً يُعتبر وفق أي معيار موضوعي كبيراً ومهماً جداً، إلا أنهم يحبون، على ما يبدو، الظهور بمظهر الضحية المجروحة، كما لو أنها دولة أضعف.كجزء من الرد الرسمي، سُحبت بطاقات الهوية وتصريحات المرور عبر المطار من موظفي القنصلية الأميركية في الهند وأفراد عائلاتهم. كذلك تتحقق السلطات الهندية مما يدفعه موظفو القنصلية الأميركيين لعمالهم المحليين (قيل إن نائبة القنصل الهندي كانت تدفع لخادمتها 573 دولاراً شهرياً فقط، أي عشر ما صرحت أنها تدفعه لها). كذلك مُنعت السفارة الأميركية أيضاً من استيراد الكحول. والأهم من ذلك أن السلطات الهندية رفعت الحاجز الأمني الإسمنتي الذي يحمي مقر السفارة. ودعا مسؤول هندي الشرطة إلى سجن و"معاقبة" أي شريك مثلي الجنس لدبلوماسي أميركي في الهند.
من السهل نسيان أن هذه الحكومة المنهمكة بمعاقبة أولئك الدبلوماسيين الأميركيين تحكم أيضاً نحو 1.2 مليار مواطن هندي. لا شك في أن هذه الخطوات تشكل في جزء منها مناورة لتسجيل بعض النقاط السياسية المحلية: فقد تسبب توقيف الولايات المتحدة امرأة هندية تنتمي إلى الطبقة الوسطى وتفتيشها بالطلب منها خلع ملابسها حالة من الصدمة والغضب في وسائل الإعلام والرأي العام الهنديين، مع العلم أن تعرض خادمة هندية من طبقة دنيا لسوء المعاملة من قبل ربّة عملها الهندية لم يواجَه بصدمة أو استنكار مماثلين. رغم ذلك، يبقى رد فعل الهند، على ما يبدو، أكثر من مجرد استجابة للرأي العام.قد يكون رد الفعل الأكثر تعبيراً هو سلوك نارندرا مودي، سياسي هندي بارز الذي قد يصبح رئيس الوزراء التالي ويقود حزب الأكثرية السياسي. فقد رفض مودي وشخصيات سياسية أخرى لقاء وفد من الكونغرس الأميركي يزور الهند. وبخلاف منع السفارة الأميركية من استيراد الكحول مثلاً، قد تترتب على هذه الخطوة تداعيات كبيرة في العلاقات الهندية-الأميركية، خصوصاً إذا أصبح مودي رئيس وزراء بلاده.لا بد من الإشارة إلى أن تفتيش نائبة قنصل أجنبي والطلب منها خلع ملابسها خطوة دبلوماسية سيئة. لكن وجه الاختلاف (إلا إذا تبين لنا العكس، ولا شك في أن ذلك سيكون اكتشافاً مفاجئاً بالتأكيد) بين ما قامت به الولايات المتحدة وردود فعل الهند أن عملية التفتيش تلك جاءت بأمر من مسؤول في الشرطة المحلية لا من وزير الخارجية جون كيري، مثلاً. فلو أن أحداً اتصل بكيري أو الرئيس الأميركي باراك أوباما وسأله: "هل نفتش نائبة القنصل الهندي بالطلب منها خلع ملابسها؟"، لأجاب بالنفي. صحيح أن مهمة إصلاح هذا الضرر ملقاة اليوم على عاتق أوباما وكيري، لكن طبيعة الخطأ الذي اقترفته الولايات المتحدة تختلف تماماً عمّا يقوم به قائد هندي، متعمداً التسبب بإهانة بدون أي غاية.لا يهم في النهاية ما إذا كان أولئك القادة الهنود غاضبين حقاً أو يحاولون فحسب تسوية حسابات سياسية. في مطلق الأحوال، أكدوا بسلوكهم هذا أن الحفاظ على علاقات إيجابية في الظاهر فحسب مع الولايات المتحدة لا يندرج ضمن أولوياتهم. ما من رادع يمنعهم من ذلك (ما من واجب يلزم الهند بالحفاظ على علاقات جيدة مع دولة أخرى)، إلا أنه يتناقض مع رغبة الهند في أن تُعامل كقوة ناشئة، كما ادعت غالباً. يتحدث القادة الهنود كثيراً عن دفع سائر دول العالم إلى الاعتراف ببلدهم كقوة عالمية، مقارنين عادة الهند بالصين. وتتخذ هذه الرغبة أشكالاً عدة، منها تأسيس برنامج فضاء وطني. إلا أنها تتبدد عادة مع تقلبات علاقة الهند بالولايات المتحدة، ما يُظهر عدم ثقة الهند بقدرتها على الاضطلاع بالدور الأكبر الذي تود أن تلعبه.تأرجحت الهند مرات عدة بين التقرب من الولايات المتحدة بصفتها نداً عالمياً وبين تحديها لتؤكد استقلالها الوطني. ومن الأمثلة البارزة على محاولتها التقرب من الولايات المتحدة طلب الهند منذ زمن أن تدعمها واشنطن كي تصبح دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، خطوة لمحت إدارة أوباما إلى أنها قد ترعاها ذات يوم. أما ما حدث أخيراً، فيشكل مثالاً على محاولاتها تحدي الولايات المتحدة.في علاقاتها مع القوى العالمية الأخرى، خصوصاً الغرب، تلجأ الهند عادة إلى تأدية دور الضحية المظلومة، دور تعتمده غالباً الدول الأضعف والأصغر حجماً منها. وهذا ما نشهده اليوم مع الخلافات الناشئة بسبب نائبة القنصل. فمعاقبة الدبلوماسيين وسحب الحاجز الأمني المحيط بالسفارة خطوات عهدناها من دول أصغر وأضعف. وينطبق الأمر عينه على الانغماس في المشاعر الشعبوية على حساب المصالح الوطنية.شعر ألمان كثر بالغضب من تجسس وكالة الأمن القومي الأميركية على بلدهم (شكوى أكثر أهمية من توقيف دبلوماسية هندية). وعبرت الحكومة الألمانية عن استيائها بوضوح، إلا أنها قامت بذلك من خلال قنوات العلاقات الدولية المعتادة. فهل تتخيلون القادة الألمان يسحبون أذون مرور الدبلوماسيين الأميركيين، مطالبين بتوقيف شركائهم مثليي الجنس أو إزالة الحواجز الأمنية المحيطة بالسفارة الأميركية في برلين؟ كلا على الأرجح. وعندما أوقفت روسيا دبلوماسياً أميركياً في ظل ظروف غريبة مماثلة في مطلع هذه السنة، لم يمنع أحد السفارة الروسية في واشنطن من استيراد الكحول.لا يشكل هذا السلوك فارقاً يميز بين الدول النامية والدول المتطورة. فلا تتردد الصين، التي لا تنفك الهند تقارن نفسها بها، في التعبير عن تحديها الصين. إلا إنها تبقى أكثر حرصاً في إدارتها علاقاتها مع واشنطن. على نحو مماثل، كان رد فعل القادة في البرازيل (دولة كبيرة ناشئة لا تختلف كثيراً عن الهند) تجاه فضيحة تجسس وكالة الأمن القومي قوياً جداً. ولكن على غرار ألمانيا، لجأت البرازيل إلى الأدوات التقليدية لقوة الدولة. تملك الهند أيضا هذه الأدوات. وهي بالتأكيد دولة أقوى وأكثر فاعلية مما تعكسه طرقها البالية أخيراً. فلا داعي لأن تمنع السفارة الأميركية من استيراد الكحول لتُسمع صوتها.Max Fisher