هل نكسب المعركة ضد الأمراض القاتلة؟

نشر في 01-11-2013
آخر تحديث 01-11-2013 | 00:01
يلح الصندوق العالمي في مناشداته لتأمين ما لا يقل عن خمسة مليارات دولار سنوياً على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة- وهو مبلغ ضئيل للغاية نسبة إلى الاقتصاد العالمي (وهو يعادل نحو 5 دولارات عن كل شخص في البلدان ذات الدخل المرتفع)، وبوسع الصندوق أن يستخدم بحكمة ضعف هذا المبلغ.
 بروجيكت سنديكيت يعد الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا واحداً من أعظم النجاحات التي شهدها العالم في مجال التنمية في العقد الماضي، فقد أنقذ هذا الصندوق ملايين الأرواح وساعد البلدان في أنحاء العالم المختلفة في التصدي لثلاثة أمراض وبائية. والآن يناشد الصندوق حكومات العالم والقطاع الخاص طالباً ثلاثة أعوام أخرى من التمويل، ومن المنتظر أن تقرر الحكومات بشأن التمويل الإضافي في أوائل ديسمبر في واشنطن العاصمة.

في عام 2000، كان وباء الإيدز (فيروس نقص المناعة المكتسبة البشرية) يعيث فساداً في أفقر بلدان العالم، خصوصاً في إفريقيا، ثم تم تطوير أدوية مضادة للفيروسات واستخدامها في البلدان الغنية، لكنها كانت باهظة التكلفة بالنسبة للبلدان الأكثر فقراً، فكان الملايين من الفقراء يموتون بسبب الإيدز رغم أن الأدوية الجديدة كانت قادرة على إبقائهم على قيد الحياة.

وكان مرضان قاتلان آخران، الملاريا والسل، في ارتفاع أيضاً، فقد ارتفعت معدلات الوفاة بالملاريا إلى عنان السماء، وكان ذلك راجعاً بشكل جزئي إلى نقص التمويل الشديد لأنظمة الرعاية الصحية في البلدان الفقيرة، وجزئياً لأن طفيل الملاريا اكتسب القدرة على مقاومة للأدوية المعتادة، ورغم ذلك فإن إمكانية السيطرة على الملاريا كانت في تحسن في واقع الأمر، بفضل تكنولوجيات ناشئة جديدة عديدة: توافر شِباك الأَسِرة المعالجة بالمبيدات الحشرية لمنع البعوض من لسع الناس (الناموسيات)، وتحسين أساليب التشخيص لتحديد العدوى، وتطوير جيل جديد من الأدوية العالية الفعالية.

كما أفلت السل أيضاً من السيطرة، فخلف عبئاً ثقيلاً على بلدان آسيا وإفريقيا. وكما هي الحال مع الملاريا، فقد تمكنت بكتيريا السل من اكتساب القدرة على مقاومة العقاقير العلاجية التقليدية. واندلع وباء مخيف جديد من السل المقاوم للأدوية المتعددة، والذي كان علاجه أصعب كثيراً من علاج السل المعتاد، كما ظهرت حالات شديدة مصابة بالسل المقاوم للأدوية المتعددة، والذي كان مقاوماً أيضاً للأدوية المستحدثة.

وفي عام 2000، لم تكن البلدان الغنية تتخذ خطوات كافية لمكافحة الإيدز والسل والملاريا، وكانت تدفقات المعونة ضئيلة، في ذلك الوقت كنت قد عينت حديثاً من قِبَل المدير العام لمنظمة الصحة العالمية للمساعدة في جمع وزراء المالية والصحة معاً لبحث ما يمكن القيام به، على الفور وفي الأمد الأبعد.

وقد أوصت مجموعتنا الاستشارية، المعروفة باسم "اللجنة المعنية بالاقتصاد الكلي والصحة"، بأن تزيد الدول الغنية من مساعداتها التي تقدمها للدول الفقيرة في مجال الرعاية الصحية، بما في ذلك الجهود الرامية لمكافحة الإيدز والسل والملاريا. فمن شأن هذه المساعدات أن تنقذ أرواح البشر، وأن تساعد في تحسين رفاهيتهم وتعزيز التنمية الاقتصادية.

والواقع أن رئيس الوزراء النرويجي السابق غرو هارلم برونتلاند، المدير العام الرائع لمنظمة الصحة العالمية في ذلك الوقت، أيد تلك التوصية بقوة. وفي مؤتمر الإيدز الدولي الذي استضافته مدينة ديربان في جنوب إفريقيا في يوليو 2000، شرحت السبب وراء الاحتياج إلى صندوق عالمي جديد لمكافحة الأيدز. وفي أوائل عام 2001، أطلق الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان نداءً قوياً ومقنعاً لإنشاء الصندوق العالمي.

واستجاب الزعماء في أنحاء العالم المختلفة لنداء أنان؛ وفي غضون أشهر ولِد الصندوق العالمي بالفعل، وما زلت أتذكر هذه الأيام بوضوح. وفي دوائر الصحة العامة الدولية كانت الإثارة عظيمة،

ولكن الأمر لم يخل أيضاً من الإحباط والحيرة، حيث بدأ معارضو المساعدات الخارجية في معارضة التمويل الإضافية لمكافحة الأمراض، وتحول العديد من خبراء الاقتصاد من ذوي الخبرة الضئيلة في مجال الصحة العامة إلى معارضين صريحين، فزعموا انطلاقا من أسس أيديولوجية "السوق الحرة"، وليس الأدلة الحقيقية، أن المساعدات الخارجية تفشل دائماً.

من حسن الحظ أن زعماء العالم أنصتوا إلى المتخصصين في مجال الصحة العامة وليس للمشككين في المساعدات، كما قدمت إدارة الرئيس الأميركي دعماً قوياً ومهماً للصندوق العالمي، وأنشأت أيضاً برامج أميركية لمكافحة الإيدز والملاريا.

بحلول النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كانت برامج مكافحة هذه الأمراض المعدية القاتلة الرئيسة الثلاثة في ازدياد مطرد في أنحاء العالم المختلفة، ورغم اعتراض المتشككين في المساعدات، قدَّم الصندوق العالمي الدعم المالي للتوزيع المجاني على نطاق واسع لشِباك الأَسِرة (الناموسيات)، وسبل التشخيص، والأدوية اللازمة للتصدي للملاريا.

 وللمرة الأولى في جيل كامل، بدأت الوفيات الناجمة عن الملاريا في إفريقيا تنخفض (وبشكل حاد في بعض الأماكن)، والآن يتم إنقاذ مئات الآلاف من الأرواح في كل عام، وأغلبهم من الأطفال الأفارقة. ولم يتم تجنيب الأطفال الموت فحسب بل أشكال العدوى الموهنة أيضاً، كما تم تمكينهم من الانتظام في المدارس والانخراط في حياة أكثر إنتاجية في المستقبل.

وقد حدث نفس الشيء مع الإيدز (فيروس نقص المناعة البشرية)، ففي عام 2000، وقبل تأسيس الصندوق العالمي، كان المصابون بالعدوى في البلدان النامية يموتون بالإيدز من دون أي فرصة للحصول على الأدوية المضادة للفيروسات المنقذة للحياة. وبحلول عام 2010، كان أكثر من ستة ملايين شخص في البلدان النامية يتلقون العلاج المضاد للفيروسات. وعلى نحو مماثل، سجلت اختبارات وعلاج السل زيادة حادة، بما في ذلك الزيادة القوية في العديد من البلدان الآسيوية المتضررة بشدة.

وتبين أن المتشككين في المساعدات كانوا على خطأ، فقد نجحت المساعدات في مجال الصحة، واستفاد العالم كثيراً من انتصار السخاء والحرفية واللياقة والحس السليم.

ومع هذا فإن معركة حشد التمويل الكافي تظل دائرة، ونفس المتشككين يكررون معارضتهم المنهكة البالية من دون الرجوع إلى عقد كامل من الأدلة، وإنه لأمر مروع كيف تعميهم أصولية السوق الحرة (أو ببساطة المعارضة الأيديولوجية للمساعدات من أي نوع) عن احتياجات تشكل بالنسبة إلى الكثير من البشر مسألة حياة أو موت وعن فعالية الأساليب العملية المعروفة جيداً في مجال المهن الصحية. (وهم يتعامون أيضاً عن الطرق المهنية في مجالات أخرى، مثل الإنتاج الغذائي).

والواقع أن الصندوق العالمي يلح في مناشداته لتأمين ما لا يقل عن خمسة مليارات دولار سنوياً على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة- وهو مبلغ ضئيل للغاية نسبة إلى الاقتصاد العالمي (وهو يعادل نحو 5 دولارات عن كل شخص في البلدان ذات الدخل المرتفع). وبوسع الصندوق أن يستخدم بحكمة ضعف هذا المبلغ.

ويبدو من المرجح أن توافق حكومة الولايات المتحدة على المساهمة بثلث هذا المبلغ إذا قدمت بقية بلدان العالم الثلثين المتبقيين. ومؤخراً بذلت المملكة المتحدة تعهداً قويا، وينتظر العالم الآن إعلانات الالتزام من جانب ألمانيا وكندا وأستراليا واليابان وغير ذلك من البلدان المانحة في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا.

إن الملايين من البشر في أنحاء العالم المختلفة سوف يعيشون أو يموتون اعتماداً على القرارات التي سوف تتخذها هذه الحكومات في ديسمبر. ولعلهم- ونحن معهم- يختارون الحياة.

* جيفري دي. ساكس | Jeffrey Sachs ، أستاذ التنمية المستدامة، وأستاذ السياسة الصحية والإدارة، ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top