الدعوة لإصلاح الخطاب الديني ليواكب المستجدات ويشحذ الطاقات ويدفعها إلى تنمية المجتمعات، مطلب حيوي، قديم ومتجدد، مصداقاً لتنبؤ الرسول، صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ يبعثُ لهذهِ الأمةِ على رأسِ كلِّ مئةِ سنةٍ من يُجدِّدُ أمرَ دينِها". وفي القرآن الكريم "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".

Ad

والتغيير بداية الإصلاح، وهو إنما يبدأ بتغيير الأفكار، وحضارتنا ما سادت العالم القديم إلا بخطاب انفتح على معطيات عصره واستوعب ثقافاته وكان حافزاً للإبداع والتقدم، وحين توقف التجديد واستكان المسلمون إلى التقليد، ران على عقلية المسلمين الجمود، ألف عام، تقدمت خلالها أمم حققت إنجازات حضارية ظاهرة وشكلت صدمة للمسلمين قبل 200 سنة وجعلتهم يتساءلون: كيف تقدموا وتخلفنا؟!

نشط القادة والمصلحون وشخّصوا علل التخلف وطالبوا بالإصلاح بدءاً بإصلاح الخطاب الديني كمدخل ضروري لإصلاح الأوضاع العامة، تحققت إصلاحات سياسية واجتماعية ودينية سرعان ما انتكست تحت وطأة المد المتطرف الذي اجتاح العالم الإسلامي في العقدين الماضيين، واليوم تظهر الحاجة الملحة لإعادة النظر في الخطاب الديني بكل تمظهراته (تعليماً وفتوى وخطبة جمعة) وفي أطيافه كافة (تقليدياً محافظاً أو سياسياً مؤدلجاً أو عنيفاً متشدداً أو معتدلاً وسطياً)، فقد أصبح مأزوماً وأخفق في تحصين مجتمعاتنا وحماية شبابنا تجاه أمراض التطرف والغلو، وإلا فما تفسير هذا العنف المروع الذي يجتاح عالم المسلمين ويعيث في ديارهم خراباً؟!  ربع مليون عراقي ذهب ضحايا عمليات الإرهاب بين 2004- 2013 على يد شباب مسلمين باسم الجهاد، القضاء السعودي حاكم الآلاف من هؤلاء المضللين، الذين كانوا وراء مخططات إجرامية تم إجهاضها، انظر ما يحصل في مصر على يد الذين أحرقوا 70 كنيسة في 3 أشهر وأرعبوا الناس!  وما يحصل في العراق يحصل في معظم الدول العربية والإسلامية على تفاوت، لم يسلم شيء من العنف الإرهابي المجنون، لا مدارس ولا مستشفيات ولا مقابر ولا حتى بيوت الله تعالى، توحش الإرهاب وهدم كل الثوابت وتجاوز كل المحرمات، كثيرون يتساءلون اليوم: لماذا هذا العنف الذي يمارَس باسم الدين، والدين منه براء؟!  ما الذي جعل شباب الأمة- الملتزمين دينياً- يندفعون نحو ميادين الهلاك وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؟! أين عقلاء وحكماء القوم؟! أين دور المؤسسات الدينية والتربوية؟! لماذا لم يتمكن الخطاب الديني من تقوية مناعة مجتمعاتنا تجاه فيروسات الغلو والتشدد؟! لماذا تصفق مجتمعاتنا للرموز المحرضة على الكراهية والعنف؟! لماذا تمكن السلطات الرسمية لدعاة الفتنة منابر بيوت الله تعالى ليضللوا الناشئة؟!  هذه التساؤلات القلقة تعبر بوضوح عن إخفاق ذريع للخطاب الديني في تحقيق أهم وظائفه وأهدافه وهي:

1- تحصين شبابنا وتقوية مناعتهم الفكرية لمواجهة فكر التطرف والغلو.

2- شحن طاقاتهم للجهاد الأكبر في ميادين البناء والتنمية والإبداع.

3- تقديم صورة حضارية للإسلام.

4- تحقيق التقارب بين المسلمين. 5-إيجاد حلول لقضايا ومشكلات مجتمعنا. لقد أخفق الخطاب الإسلامي وتحول إلى عامل تأزيم وفرقة بين المسلمين وتعميق للطائفية وتمزيق للوحدة الوطنية، الخطاب السائد عبر المنابر الدينية والفضائية والإلكترونية، خطاب تعبئة وشحن وتحريض، خطاب هدم لا خطاب بناء وتنمية، دعونا نتساءل: لماذا فشل الخطاب الديني، هل بسبب نقص الموارد والإمكانات أم بسبب التضييق على الدعاة؟ لا هذا ولا ذاك، فالموارد المرصودة للشأن الديني، هائلة، والدعاة والخطباء لهم المكانة العليا في المجتمع، ولهم نفوذهم وهيمنتهم على المنابر والمناهج والإعلام التي تصوغ ثقافة المجتمع وتشكل وجدانه وعقله وتصوراته، إذن أين الخلل؟

أتصور أن الخلل الأساسي في الخطاب الديني المعاصر، أنه انزلق إلى هوة "التسييس" من قبل الأنظمة الحاكمة والجماعات الدينية المعارضة التي وظفت هذا الخطاب لأهداف سياسية حزبية ضيقة واستثمرت المساجد لأجندتها في التحريض على المخالفين لها سياسياً أو مذهبياً، لا تتورع هذه الجماعات حتى عن "تسييس الحج" واستغلاله للدعاية الحزبية، لذا أحسنت السعودية بمنع استغلال الحج للدعاية السياسية، كما أحسنت بمنع خطباء الجمعة من التعرض للدول والأشخاص والمؤسسات أو التشهير بهم، تصريحاً أو تلميحاً، أو الخوض في المسائل السياسية والمذهبية والحزبية. هذا "التسييس" الضار الذي ابتلي به الخطاب الديني منذ بزوغ نجم دعاة الإسلام السياسية، هو الزاد اليومي الذي يغذي الصراعات السياسية والنزاعات المذهبية، وهو "الآفة" الكبرى الحاكمة لدنيا العرب، وقد طالت بيوت الله تعالى فاستغلت منابرها للأهواء والفتن والتحريض والتشهير والتجريح، وما كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شتاماً ولا داعية فرقة أو فتنة، بل بعث ليتمم مكارم الأخلاق، فلماذا يوظِّف منبره فينا مَن يناقض سنّته وهديه؟! ولماذا إشغال المصلين بخلافات سياسية ومذهبية؟! ولماذا انتهاك قدسية المسجد بحديث اللغو السياسي؟! وبأي حق يحوّل الخطيب منبر المسلمين إلى منبر خاص لتهييج الجماهير ضد حكامها وأنظمتها؟! ولمصلحة من ذلك؟!  يجب أن ينشغل الخطاب الديني بقضايا إصلاح ذات البين وبما يجمع أمر المسلمين ويؤلف بينهم، وبما يعزز المشترك الديني والوطني والإنساني بين أبناء المجتمع الواحد، وما يدفعهم إلى مزيد من الإنتاج والعطاء والبذل والتعاون، نريد خطاباً دينياً يشيع مشاعر البهجة والسرور والتفاؤل والمحبة والتسامح بين الناس ويؤكد القيم الأخلاقية، فرسولنا "رحمة مهداة". نريد خطاباً إنسانياً ينسجم وروح العصر وينفتح على الثقافات الإنسانية ويخاطب الإنسان لكونه إنساناً كرمه الله تعالى قبل أن يكون مسلماً أو غير مسلم، ذكراً أو أنثى، لا صلاح ولا إصلاح للخطاب الديني مادام شعار أكبر فصيل ديني لايزال شعار "الإسلام مصحف وسيف"، نعم الإسلام مصحف، لكنه ليس سيفاً مصلتاً ولا ينبغي أن يوضع السيف مقارناً للقرآن وفي منزلته، فهذا شعار مبتدع لم يعرفه المسلمون من قبل، هدفه السلطة السياسية باسم الدين!

ختاماً:

إذا كنا جادين في إصلاح الخطاب الديني، فعلينا تخليصه وإبعاده عن صراعاتنا السياسية وخلافاتنا المذهبية.

* كاتب قطري