"لا تعتبر الولايات المتحدة أوروبا ساحة قتال بين الشرق والغرب، كذلك لا نرى الوضع في أوكرانيا لعبة فيها الخاسر والرابح، ومن المفترض أن يكون هذا النوع من التفكير قد انتهى مع الحرب الباردة". باراك أوباما، 24 مارس.

Ad

"يُفترض"، يا لها من مشاعر جميلة! تذكّرنا هذه الكلمات بما أعلنه أوباما قبل خمس سنوات في الأمم المتحدة: "لا تستطيع أي أمة أن تسيطر على أمة أخرى، ويجب ألا تقوم بذلك".

نتوقع عادةً سماع مشاعر مماثلة من متبارية في مسابقة ملكة جمال الولايات المتحدة، عندما يُطلَب منها التعبير عن رغبتها الأحب، لا من قائد العالم الحر خلال توضيحه سياسته الخارجية.

يدرك الأوروبيون الشرقيون أنهم يقيمون في ساحة قتال بين الغرب ودولة روسية تريد إعادتهم إلى مدار نفوذها، فيرى الأوكرانيون آلاف الجنود الروس المتمركزين على حدودهم، ويعلمون أنهم ينظرون إلى فوهة مدفع في لعبة فيها الخاسر والرابح.

لكن أوباما يظن العكس، فيقول إن تفكير فلاديمير بوتين الاستعماري الجديد هذا من مخلفات الماضي، وينصح بوتين بتخطي مرحلة الحرب الباردة.

يا للهول! لم يتخطَّ بوتين بعد الثورة الروسية، ألم يعطِ أحد أوباما نسخة من خطاب بوتين الأخير الذي أدلى به عقب ضم القرم؟ لم يتوقف بوتين في هذا الخطاب عند خسارة الإمبراطورية الروسية في تسعينيات القرن الماضي، بل عاد إلى العشرينيات معلناً: "بعد الثورة، أضاف البلاشفة... ليجازِهم الله، أجزاء كبيرة من جنوب روسيا التاريخي إلى جمهورية أوكرانيا". لم يكن بوتين يشير بكلماته هذه إلى القرم (التي أتى على ذكرها بعد جملتَين)، بل إلى هدفه المحتمل التالي: خاركيف ودونيتسك وما تبقى من جنوب شرق أوكرانيا.

إذاً، تبدو تظلمات بوتين بشأن المناطق التي يود استرجاعها عميقة جداً، لكن أوباما يعجز، على ما يظهر، عن سبر غورها، فعندما سُئل عما إذا أساء الحكم على روسيا وعما إذا كانت هذه الأخيرة تشكّل حقاً أبرز أعدائنا الجيو-سياسيين، أجاب بتهكّم إن روسيا ليست سوى "قوة إقليمية" تعمل "انطلاقاً من ضعفها".

من أين نبدأ؟ كانت ألمانيا في عهد هتلر واليابان في عهد توغو قوتين إقليميتين، إلا أنهما خلفتا ما لا يقل عن 50 مليون قتيل. نعم، لا تضاهي روسيا القوة الأميركية عظمةً، ولكن خلال عهد الرئيس الحالي، تبدو أنها أكثر مهارة وذكاء من الولايات المتحدة، بدءاً من محاولة "إعادة ضبط" العلاقات إلى التهديدات الأميركية الفارغة بـ"العواقب" في حال ضمت روسيا القرم.

لقد ضمتها بالفعل، أما "العواقب" فجاءت مضحكةً؛ لقي عدد كبير من الجنود الأوروبيين في القرنين التاسع عشر والعشرين حتفهم في القرم، أما بوتين، فغزاها بحملة سريعة وخاطفة لم تستغرق سوى ثلاثة أسابيع ولم تكلّف قواته جندياً واحداً... أهذا "ضعف"؟

لا شك أن استخفاف أوباما بروسيا كقوة إقليمية يجعل قيادته القوة العظمى الوحيدة محرجةً حقاً، فطوال العقود السبعة التي تلت استسلام اليابان، كان دورنا خلال عهد أحد عشر رئيساً موازنة القوى في الخارج لحماية حلفائنا الصغار من أي هيمنة إقليمية محتملة.

ولكن ماذا يظن حلفاؤنا اليوم؟ تتساءل اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان، والفلبين وغيرها من أصدقائنا في المحيط الهادئ عما سيكون عليه موقف هذه الدولة الأميركية في حال قررت الصين توسيع مزاعمها وسيطرتها. كذلك تعبّر دول الخليج العربي عن خوفها، حينما ترى الولايات المتحدة تخوض مفاوضات نووية صورية مع إيران لن تحقق أي أهداف غير ترك عدوها الشيعي اللدود على بعد أسابيع قليلة من تطوير قنبلة.

لم تسعَ الولايات المتحدة وراء الدور الذي أعطاها إياه التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية، حين اضطرت إلى تحمّل أعباء لم ترِدها "لتضمن استمرار الحرية ونجاحها"، على حد وصف جون كينيدي المؤثر. كذلك نمقت بشدة الواقع المحزن الذي يُظهر أن بديل القيادة الأميركية سيكون إما الفوضى العالمية أو هيمنة قوى مثل الصين وروسيا وإيران.

ولكن يبدو أن أوباما لا يدرك حتى هذه الحقيقة، ففي خطابه البارز الأخير في بروكسل، الذي أدلى به في اليوم عينه الذي سيطرت فيه روسيا على آخر السفن الأوكرانية في القرم، قدّم أوباما إشارات مبهمة إلى تدابير إضافية ستُتخذ في حال توغلت روسيا في أوكرانيا، مشدداً في الوقت عينه على أهمية القانون الدولي، والأعراف الدولية، والمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة.

سيترك هذا التفكير الخيالي حلفاءنا أمام خيارين: إما الرضوخ أو التسلح. فإما يستسلمون للتنمر الإقليمي أو يحصنون أنفسهم بتطوير أسلحة نووية، وهذا ما ستفعله بالتأكيد دول الخليج وبعدها اليابان وكوريا الجنوبية.

حتى الأوكرانيون بدأوا يعبرون اليوم عن ندمهم لتخليهم عن أسلحتهم النووية مقابل ضمانات على ورق تؤكد وحدة أراضيهم، فقد جاءت مذكرة بودابست لعام 1994 في غير وقتها، وهي تُعتَبر المثال الأبرز على تفكير القرن الحادي والعشرين المتقدّم الذي يعزه رئيسنا، لربما كان على قبطان تلك السفينة الأوكرانية الأخيرة أن يلوّح بهذه الوثيقة في وجه الأسطول الروسي خلال استيلائه على سفينته.

* تشارلز كراوثامر | Charles Krauthammer