إن السياسة الخارجية لأي بلد يفترض أن تستهدف في المقام الأول تعزيز مصالحها الوطنية، ولكن في أجزاء كبيرة من آسيا، تخضع المصلحة الوطنية غالباً- سواء كانت بناء علاقات تجارية أو تعزيز الأمن- للتاريخ وقبضته على الخيال الشعبي، وكما اكتشف نائب رئيس الولايات المتحدة جو بايدن أخيراً في جولته في اليابان والصين وكوريا الجنوبية، فإن ملاحظة الروائي الأميركي ويليام فوكنر- "الماضي لا يموت أبداً، وهو ليس ماضيا حتى"- من غير الممكن أن تكون أكثر ملاءمة.

Ad

ومن بين الأمثلة التي كثيراً ما يُستشهَد بها على هذا العلاقة بين الهند وباكستان أن رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ ورئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف يدركان الإمكانات الاقتصادية الهائلة التي قد تترتب على تحسين العلاقات التجارية الثنائية بين البلدين، ومن الواضح أن التقدم الذي سعى الرجلان إلى تحقيقه في هذا المجال يصب في المصلحة الوطنية للبلدين، لكن مبادراتهما الدبلوماسية سرعان ما أُحبِطَت بفعل أولئك الذين لا يمكنهم تقبل مثل هذا المنطق، والذين لا يتورعون في بعض الأحيان عن ارتكاب أعمال إرهابية وشن غارات عسكرية.

لكن مشكلة التاريخ في آسيا لا تقتصر على ديمقراطياتها، حيث يؤثر الرأي العام بشكل مباشر في تصرفات الحكومة، فلا تزال الصين وفيتنام أيضاً أسيرتين لتاريخهما المشترك الطويل المرير، وقد أمضى الجنرال الراحل فو نغوين غياب، الذي قاد فيتنام عبر الحروب ضد فرنسا والولايات المتحدة إلى الاستقلال، سنوات عمره الأخيرة في الاحتجاج على الاستثمارات الصينية في بلاده.

ولعل الحالة الأشد خطورة في آسيا من الهوس التاريخي تتمثل بالعلاقة بين الصين واليابان، والواقع أن النزاع الحالي في بحر الصين الشرقي حول جزر سينكاكو التي تسيطر عليها اليابان (والتي تسمى جزر دياويو في الصين) كان من المحتمل أن يصبح أقل توتراً وحِدّةً إذا لم تُجتَر فظائع الحرب الصينية اليابانية بهذه الكثافة في الحياة الصينية المعاصرة.

الواقع أن اليابان حاولت التكفير عن أفعالها في الماضي، بما في ذلك تقديم الدعم الحماسي لجهود دينغ شياو بينغ لفتح اقتصاد الصين، فلم تكن تريليونات الين التي استثمرتها الشركات اليابانية في الصين منذ تسعينيات القرن العشرين- ناهيك عن نقل التكنولوجيا الحرجة- سعياً إلى الربح فحسب (ومن الواضح على أي حال أن الاستثمارات اليابانية أفادت اقتصاد البلدين).

لكن رغم أن هذه الجهود ساعدت في تعميق العلاقات الاقتصادية بين اليابان والصين، فإنها لم تكن كافية لفرض ذلك التأثير التحويلي في العلاقات الثنائية كما كان المرء ليتوقع. والواقع أن العلاقات بين البلدين أصبحت تتسم الآن بما يسميه اليابانيون "السياسة الباردة والاقتصاد الساخن".

ويطارد التاريخ الكريه أيضاً العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية- وهي حالة كاشفة بشكل خاص، نظراً لمدى تواؤم مصالح البلدين الاستراتيجية، فهاتان ديمقراطيتان، وكلاهما من بين أقرب حلفاء أميركا، لكنهما رغم ذلك عاجزتان عن التغلب على عبء الماضي، فهو بالنسبة إلى الكوريين الجنوبيين عبء ثقيل تمتد جذوره إلى الاستعمار الياباني والفظائع التي لا تعد ولا تحصى التي ارتُكِبَت في الحرب العالمية الثانية، ولكن الحقيقة البسيطة هي أن كلا البلدين من الممكن أن يستفيد بشكل كبير من الناحية الأمنية بشكل خاص من التعاون الفعّال بينهما.

والواقع أن تعبير "السياسة الباردة والاقتصاد الساخن" يشكل تعريفاً دقيقاً للوضع الراهن: فالبلدان العاجزة عن التغلب على عداواتها التاريخية عندما يتلعق الأمر بالسياسة الخارجية تعترف بسهولة بأن العلاقات الأفضل تعني اقتصاداً أفضل، وقد شهدت منطقة شرق آسيا بشكل خاص ارتفاعاً غير مسبوق في التجارة البينية الإقليمية، والاستثمار، بل حتى السياحة على مدى العقدين الماضيين.

ورغم هذا فهناك ما يدعو للأمل، ويأتي هذا الأمل من مصدر غير متوقع، فمع الجهود التي تبذلها الصين لفرض نفسها كقوة مهيمنة إقليمية والتي تعمل على تأجيج المخاوف في أنحاء آسيا المختلفة، تبدو جاراتها بشكل متزايد على استعداد للتخلي عن الأحقاد القديمة لمصلحة تحالفات أقوى. على سبيل المثال، شهدت علاقات اليابان بفيتنام وميانمار (بورما سابقاً)، وكل منهما تشارك الصين الحدود، حالة سريعة من الدفء في الأعوام الأخيرة- وهو الاتجاه الذي سعى رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي إلى رعايته.

وعلى نحو مماثل، بادرت الفلبين- العالقة في مواجهة مع الصين بشأن مجموعة صخور سكاربورو الضحلة المتنازع عليها- إلى تنحية ذكريات الاحتلال الياباني الأليمة وقت الحرب، وتقبلت زيادة المعونات والمساعدات البحرية، بما في ذلك عشر سفن دورية بلغت قيمة كل منها 11 مليون دولار أميركي، للمساعدة في المراقبة البحرية. حتى إن وزير خارجية الفلبين ألبرت ديل روساريو أعلن على الملأ أن بلاده ترحب بسياسة دفاعية يابانية أكثر قوية للتعويض عن الحشد العسكري الصيني.

وأحد أسباب هذا التحول هو أن كثيرين في الفلبين شعروا بأنهم مهمَلون بعض الشيء من قِبَل الولايات المتحدة في مواجهتهم مع الصين، ومع تأكيد الصين على نحو متزايد مطالباتها بالسيادة على مناطق في بحري الصين الشرقي والجنوبي، فإن بعض البلدان الآسيوية الأخرى قد تجد أيضاً أن عبء التاريخ يشكل عقبة عظيمة تحول دون تحسن فرصها في المستقبل.

ومن الممكن أن تقطع اليابان شوطاً طويلاً نحو مساعدة جيرانها في التغلب على الماضي المسمم الذي تتقاسمه مع العديد منهم نتيجة لطموحاتها الإمبراطورية القديمة. وكما كانت حملة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في مكافحة الشيوعية سبباً في دفعه إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين، فإن آبي قد يكون السياسي الياباني الأكثر قدرة على مزج الندم على الماضي بالانفتاح والصراحة في التعامل مع الحاضر.

والنبأ السار هنا هو أن آبي أظهر علامات هذا النوع من الشجاعة، ففي قمة عام 2006 مع الزعيم الصيني أثناء توليه منصب رئيس وزراء اليابان أول مرة، وافق آبي على إنشاء لجنة مشتركة تضم مؤرخين من اليابان والصين وأماكن أخرى، لدراسة تاريخ القرن العشرين. وكانت الفكرة أن هذه اللجنة من الممكن أن تخرج بتوصيات غير منحازة بشأن قضايا خلافية مثل محتوى كتب التاريخ المدرسية بل حتى ضريح ياسوكوني الذي يحتوي على رفات مجرمي حرب يابانيين بين آخرين.

إذا أحيا آبي هذه المبادرة اليوم فسوف يكون بوسعه أن يساعد في تخفيف العداوات الإقليمية التي يواجهها في محاولة جعل اليابان دولة "طبيعية" تمتلك قدرات عسكرية تمكنها من المشاركة في الدفاع الإقليمي الجماعي. والواقع أن هذه المبادرة قد لا تنجح مع الصين، حيث لا تزال الحكومة تستخدم الحرب مع اليابان لإثارة المشاعر القومية. ولكن البلدان التي تستشعر وطأة الضغوط التي يفرضها صعود الصين، مثل كوريا الجنوبية- كما أظهرت الضجة الحالية التي أثيرت حول توسيع الصين لمنطقة دفاعاتها الجوية من جانب واحد- قد تقابل مثل هذا الجهد بالمثل، وهذا وحده لابد أن يكون سبباً كافياً لدفع آبي إلى العمل.

* جاسوانت سنغ، شغل مناصب وزير المالية والخارجية والدفاع في الهند سابقا، وهو مؤلف كتاب «جناح: الهند ــ التقسيم ــ الاستقلال»، وكتاب «الهند في خطر: أخطاء وأوهام ومصائب السياسة الأمنية».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»