قد يكون الهاجس الأول بعد أن تنتهي المفاوضات الجارية في القاهرة بين الفصائل الفلسطينية ودولة الاحتلال إن قدر لها نهاية مشرفة للجانب الفلسطيني تليق بدماء الشهداء، هو إعادة إعمار غزة كلها ذلك أن الدمار طال كل شيء!

Ad

وما تناقلته الأخبار ونحن في اليوم الأول من المفاوضات أن د. محمد مصطفى نائب رئيس الوزراء ووزير الاقتصاد قد كشف لجريدة «الأيام» عن «أن السلطة الفلسطينية اتفقت مبدئيا مع الأطراف الدولية على عقد مؤتمر للمانحين في أوسلو في النرويج في الأول من سبتمبر المقبل لإعادة إعمار قطاع غزة...» انتهى الخبر.

ولعلنا ونحن ما زلنا لم نضمد الجرح العميق أو نجمع أشلاء شهدائنا نذكر أن هذا العدوان الذي استمر أكثر من ثلاثة أسابيع متواصلة قد دمر غزة تدميراً شبه كامل، وعلينا أن ندعم المفاوض الفلسطيني وهو في قوة لم يقدرها العدو حق قدرها خاصة أن المفاوض بكل أطيافه وتنظيماته الفاعلة قد توحد على صوت واحد وفي خندق المقاومة جنبا إلى جنب، رغم كل محاولات الضغط عليه من أكثر دول العالم نفوذا عسكريا وماديا، ورفض كل الإغراءات كي يسلم بالواقع الذي لم يُحسن الآخرون قراءته، ولم يمنحوا أنفسهم وقتاً كي ينصفوا أصحاب الحق ولم يضعوا في الاعتبار حجم الصبر والتحمل والصمود على غطرسة عدو لا يفهم إلا أسلوب القوة في تحقيق أغراضه مستهينا بعزيمة الشعب الفلسطيني.

ولعلنا نكتشف وللمرة الأولى أن سنوات الحصار الشديد كان لها ميزة الإبداع والاكتشاف لقدرات هذا الشعب وذكائه في تطويع مأساته بما يخدم طموحه وأهدافه حين عكفت عقول أبنائه الجبارة على صنع أدوات مقاومتها بنفسها وبعيدا عن الأعين المتلصصة، وفي سرية تامة ظن العدو أنه على علم بكل حيثياتها وخطواتها، ولم يشعر بخيبته إلا عند المواجهة بتكتيكات لم يألفها في حروبه مع الجيوش العربية النظامية خلال سنوات عمر دولته.

ولعل المفاجأة كانت أكبر مما صورته قيادة العدو لجيشها وبسـَّـطت له الأمر على أنه «نزهة» لبضعة أيام وتـسلم المقاومة بالأمر الواقع، ومن بعده تتفرغ دولة الاحتلال لتستفرد بالنصف السياسي للشعب الفلسطيني وتقضم ما تبقى من الأرض والسلطة!

الغريب، والذي ضاعف حجم المأساة على شعب فلسطين في غزة، هو موقف البلاد العربية وصمتها الذي أخرج الشعب الفلسطيني عن وقاره واحترامه للجميع رغم استنجاده بالعرب حكومات وشعوبا.

 الصمت الذي تأكد منه أن رغبة قوية لدى الجميع في تحجيم المقاومة بحجة أن هذه البلاد مشغولة بمشاكلها الداخلية المتصاعدة، وهي حجة واهية أمام الدمار الذي حل بقطاع غزة من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه وعاثت فيه قوة الاحتلال الصهيوني دمارا وقتلا بلا تمييز بين حي ولا جماد.

قتلت العائلات ودمرت البنايات والبيوت على أصحابها، ولم تبق ولم تذر! في صمت عربي وغبن عالمي يُتَّهم الفلسطينيون بأنهم المعتدون.

في عالم يتشدق بالديمقراطية وحقوق الإنسان بالعيش الكريم، يتم الكيل بمكيالين وتحميل الضحية وزر الجلاد! وبكل «وقاحة» رغم أن «شعوب» هذا العالم قد هبت لنصرة غزة، وطالبت بإنقاذ ما تبقى منها في مسيرات جابت شوارع كبريات العواصم العالمية، وهي تحتج على حكوماتها التي مالت إلى مساندة المعتدي.

لم تنتهِ الحرب على غزة بعد ولكننا في انتظار ما ستسفر عنه المفاوضات غير المباشرة في القاهرة خلال الأيام القادمة، ولعلنا نؤكد أن خسارة البنيان ودماره وفقدان أسر بكاملها واستشهاد الآلاف وتدمير البنى التحتية ومنع وصول حملات الإغاثة الطبية والإنسانية ليست وحدها الخسارة الفادحة، بل علينا ألا ننسى أن الناجين من هول هذه الحرب من أبناء غزة بفئاتهم العمرية كلها يحتاجون إلى وقت كي يستعيدوا توازنهم وقدراتهم على استقبال الحياة ببسمة صغيرة تنفرج عنها الشفاه.

ونؤكد أن كل من تبقى على وجه أرض غزة يحتاج إلى رعاية وعلاج نفسي بحجم المأساة التي حلت بغزة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، فليكن في حسابات الذين يخططون لإعادة إعمار غزة في نواحي الحياة المادية من بيوت وشوارع ومرافق ومستشفيات ومدارس وغيرها، ألا يغيب عن بالهم التخطيط لإصلاح النفوس التي أصابها الضرر وحطم ما فيها من معان سامية وأخلاق نبيلة تحولت (أردنا أو لم نرد) إلى نقمة على العالم أجمع، العالم الذي وقف صامتا خوفا من الدولة المعتدية أو جُـبنا في نفسه.

 كما أن إصلاح النفس يحتاج إلى وقت ولا أحد يضمن ما ترسب في نفوس أطفال غزة الذين سيكتشفون استشهاد آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم من عُـقـَـدٍ نفسية قد تتحول على مر السنين إلى ردات فعل لا يمكن تصورها، وقد يجني العالم منها ويلات جديدة إن لم يتحقق سلام عادل للشعب الفلسطيني يشعر به هؤلاء الأطفال، وبأن بعض تضحيات أهليهم قد أعاد لهم حقوقا كانت قد غيبتها غطرسة العدو ومن سار في ركابه من دول العالم الذي كال بالمكيالين!

* كاتب فلسطيني - كندا