تجربة الدجل والعرافين... وسنوات المنافسة مع عمرو موسى 1- 10

 الإعلامي الكبير حمدي قنديل يروي ذكرياته: «عشت مرتين»

نشر في 26-01-2014
آخر تحديث 26-01-2014 | 00:10
من ميلاده حتى وقتنا الراهن، وبين حكاياته مع أهل السياسة والفن والإعلام تدور مذكرات الرجل الذي يعتبره كثيرون أهم إعلامي عربي... إنه حمدي قنديل، الذي تنشر «الجريدة» حلقات من مذكراته بعنوان «عشت مرتين».
قنديل الذي يقول إنه عاش مرتين لا يقصد بذلك حياة اليقظة وحياة المنام، فحياة اليقظة وحدها تكفي وتزيد، على حد تعبيره في مقدمة مذكراته التي يوضح خلالها: عشتها طولا وعرضا، أخذا وردا، فيها الأسى والانكسار والفشل، وفيها الصمود والحلم والإنجاز، وفيها من المفاجآت والمفارقات ما يعجز عن ابتداعه عتاة المؤلفين.
وأضاف: «أعترف بتناقض في شخصيتي، يقال إنه ذلك الذي يميز مواليد «برج الجوزاء»، يجمع بين التفتح على الدنيا وبعض جذور محافظة، ذلك أنني أقدر المرأة وأفخر بها، لكنني أحاول أن أحميها من التلصص واللغو، لذلك لا أعتقد أن كتب المذكرات هي المكان المناسب للخوض في حكايات النساء، وإن كان ذلك قد أصبح على ما يبدو حقا مكتسبا للقارئ».
وذكر: «لا أدري في النهاية إذا ما كان الذي يحتويه الكتاب هو الذي توقعه القارئ، وإذا ما كانت قد وصلته الرسالة التي وددت أن تصل إليه، وهي أن يحس عندما يضع الكتاب جانبا أنه أكثر قوة و
جذور وبدايات (1936– 1952)

جذور أسرة أبي ترجع إلى بلدة كفر عليم في ريف محافظة المنوفية، وكذلك أمي التي أتى أجدادها من أبيها (عائلة حلاوة) من البلدة نفسها، أما أجدادها من أمها (عائلة الفقي) فهم من بلدة طنبشا المجاورة، وهكذا فأنا «منوفي» أباً وأماً، ولست أدري ما إذا كنت قد ورثت عن المنايفة طباعهم التي يتحدث عنها الأدب الشعبي، وأشهرها البخل، لكني سأبادر، كما هو متوقع، إلى نفي هذه التهمة.

الثابت على أي حال أن «المنايفة» يقبلون على التعليم، وتقول الإحصاءات إن في المنوفية أكبر نسبة من المتعلمين مقارنة بعدد السكان.

كان الاثنان أولاد خالة وكانا متقاربين في السن، ومع ذلك فقد تزوج أبي من أمي برضاها، رغم فارق السن بينهما الذي يبلغ 25 عاما، وأظن أن زواجهما كان مستقرا إلى حد كبير.

في بيتنا في الوايلي بالقاهرة ولدت طفلتهما الأولى سوزان في عام 1935، لكنها سرعان ما ماتت، وجئت بعد ذلك بعام، وسموني محمد حمدي.

أخي الأصغر هو عاصم قنديل، المحامي الآن، وهو آخر العنقود كما يقال، أما ماجد، اللواء المتقاعد الذي قضى عمره في سلاح المدفعية، فقد ولد بعد ولادتي بعامين، وبعده بعامين أيضا ولدت مرفت، وهي ربة أسرة متزوجة من لواء الأسلحة والذخيرة المتقاعد صالح صالح، وبعد عامين آخرين جاءت شقيقتي مآثر، التي عينت معيدة بقسم اللغة الإسبانية في كلية الألسن، ثم حصلت على منحة لدراسة الدكتوراه في إسبانيا، وهناك بدأت حياتها كمترجمة فورية حتى تقاعدت قبل سنوات، أما مرفت التي تصغرني بأربعة أعوام فهي تعاملني كأمي.

أنجبت مرفت ومآثر أولادا وبنات، أما أنا وماجد وعاصم فلم ينجب ثلاثتنا، والحمد لله أننا راضون بما قسم لنا.

حزام الرسوب

عشنا جميعا أيام صبانا في طنطا التي انتقل إليها والدي مدرسا للغة العربية في مدرسة طنطا الثانوية للبنات، وكنا نسكن في بيت من ثلاثة طوابق في 16 شارع الفاتح، كان بيتنا مثل كثير من البيوت المصرية يعرف ربنا، ويعمر المساجد ويعمِّر في الأرض ويعامل الناس بالحسنى.

كان أبي يسمح لي، بل يطلب مني أحيانا، قراءة جريدة «المصري»، وكانت هي الجريدة الوحيدة التي يشتريها كل يوم، قرأت جريدة «الاشتراكية» في بيت صديق كان والده يشتريها بانتظام، فأصبحت أبحث عنها أنا الآخر بين الحين والحين، وأظنها أثرت كثيرا في توجيه ميولي، بل واستفزتني إلى أبعد حد عندما قرأت فيها مقال أحمد حسين الشهير «رعاياك يا مولاي».

كان المقال ممتدا على صفحتين تصدرته صورة لطفل حافي القدمين مهلهل الملابس وصور أخرى لنساء ورجال تنطق أحوالهم بالبؤس في أزقة القاهرة وأعماق الريف، وذُيِّلَ المقال بتوقيع المخلص: أحمد حسين.

كانت دراستنا مستقرة، ولم يرسب أحدنا في عام من الأعوام، ولا أذكر أني رسبت في مادة الا مرة واحدة عندما كنت في مدرسة طنطا الابتدائية للبنين، وعندما جاءت الشهادة بدائرة حمراء في اللغة الإنكليزية خلع والدي حزامه وضربني به مرة واحدة، كانت هي الأولى والأخيرة التي ضربني فيها، أنا أو أحد إخوتي في حياته.

أذكر من زملائي في مدرسة طنطا الثانوية الجديدة: جمال بدوي وعمرو موسى... جمال أصبح فيما بعد صحافيا لامعا وكاتبا كبيرا، وكنت أعتبره واحدا من أفضل من تحدثوا على شاشة التلفزيون وهو يروي كحكاء بارع قصصا مثيرة من التاريخ.

أما الطالب الثاني، الذي امتدت علاقتي به هو الآخر، عمرو موسى، وزير الخارجية وأمين الجامعة العربية ثم مرشح الرئاسة، فكان كل من يعرفه يتوسم فيه النبوغ، وكان متفوقا طوال دراسته، وغالبا ما كنا نتنافس معا على المركزين الأول والثاني، وظل طويلا يتحدث عن هذه المعركة إلى الآخرين أينما تواجدنا معا، ويضيف ضاحكا أنه كان بالطبع الأول على الدوام، وكنت أقول إنني سلمت بأنه كان الأول منذ عين وزيرا.

منشورات المسجد

وكان لي في ذلك الوقت بطل أسطوري واحد هو لطفي فطيم، كان في العشرينيات من عمره، وكان جارا لنا، لفت نظري بزيارات البوليس السياسي المتكررة له، واختفائه لأيام أو شهور بعد أن يغادر منزله في بوكس الشرطة.

كان لطفي لغزا بالنسبة لي وعدد من أقراني، وازداد اللغز غموضا حين قال أحدنا إنه شيوعي، ولم يكن هناك بُد من أن أتربص به ذات مرة وأسأله إذا ما كان شيوعيا حقا، وما هي هذه الشيوعية؟ وقد أجابني يومها بإيجاز، لكنه وعدني بأن نلتقي مرة كل أسبوع في الحديقة المواجهة لمدرسة طنطا الثانوية القديمة في شارع البحر ليحدثني باستفاضة.

عندما التقينا في الموعد المحدد نبهني أن أكتم سر لقائنا ومكانه فازداد الأمر بالنسبة لي إثارة، وأعطاني يومها محاضرة موجزة تذكرت منها عبارتين براقتين، «العدالة الاجتماعية» و»المساواة بين البشر»، لما قلت لأبي ما سمعت قال إن ذلك كله في الإسلام، وطلب مني أن أستعد في عصر اليوم التالي ليصطحبني إلى جمعية «الشبان المسلمين»، سألته: الشبان أم «الإخوان»؟ أذكر ما قال: «لا، الإخوان شداد شوية»... ربما كان يعني متشددين، أو يعني أنهم ميالون إلى العنف، خاصة أن الأنباء كانت تواترت عندئذ عن مقتل النقراشي باشا، رئيس الوزراء، واللواء سليم زكي، حكمدار العاصمة، على أيديهم.

دعاني لطفي فطيم إلى بيته، حيث أطلعني على بعض المنشورات المكتوبة بخط يده، وكان أحدها قاموسا في ألفاظ السباب، لعن فيه الملك والحكومة والإنكليز جميعا، يومها طلب مني أن أعاونه في نسخ المنشورات بخطي لأن الشرطة أصبحت تعرف خطه جيدا، وعندما تهربت طلب مني أن أعاونه في توزيعها على الأقل، وبدت لي المهمة أكثر إثارة.

قال إنه يعرف أنني أصلي الجمعة في مسجد قريب من البيت، لكنه طلب مني أن أصليها في الأسبوع التالي في مسجد السيد البدوي الحاشد عادة بالمصلين؛ لكي نوزع فيه منشورات معادية للملك.

ذهبت إلى منزله صباح الجمعة، حيث شحنت حزمة من المنشورات داخل سترتي، وفعل هو الآخر الشيء نفسه، وذهبنا إلى المسجد، توجه هو إلى الطابق الأرضي وطلب مني التوجه إلى الطابق العلوي، وقال: «عندما تنتهي الصلاة ويبدأ المصلون في التسليم اقذف المنشورات من أعلى إلى صحن المسجد، بعد أن يلتفت الناس بالسلام إلى جانبهم الأيمن، وقبل أن يلتفتوا للتسليم إلى يسارهم، وهرول إلى أسفل تجاه الباب دون أن تجري»، وتمت المهمة بنجاح، وكنت أشعر بسعادة بالغة وأنا أرى المنشورات تتطاير مع الريح الخفيفة في صحن المسجد كما لو كنا في كرنفال.

كانت تعليمات لطفي أن يتحاشى كل منّا أن يلتقي الآخر لأسبوع كامل، لكنني شغلت عنه سنوات طوال كان قد طلق خلالها النشاط السياسي وسافر إلى الخارج، ربما إلى هولندا، وعندما عاد نجح في ميدان نشر الكتب وتوزيعها، وأصبح أستاذا لعلم النفس في الجامعة، وقد علمت أخيراً أنه عاش في السعودية نحو عشر سنوات توفي بعدها في عام 1998.

«عضوية لوكس»

أما المغامرة الأخرى التي لاأزال أختزن تفاصيلها فكانت أيضا أيام دراستي الثانوية، حيث علمت أن هناك صحيفة محلية تصدر في طنطا باسم جريدة «الإخلاص»، وكان صاحبها ورئيس تحريرها هو الأستاذ محمد عبدالسلام شتا.

ذهبت إلى الأستاذ عبدالسلام في الجريدة، وكانت في حارة خلف قسم أول طنطا، يومها كان الرجل رابضا خلف مكتبه، ورحب بي ببعض المبالغة، وطلب مني أن أجمع أخبارا من هنا وهناك وآتي بها إليه بعد أسبوع، لكنه حذرني من أنه سيكون من الصعب القيام بهذا العمل إلا لو أعطاني بطاقة صحافية، وقال إن لديه نوعين من البطاقات أحدهما «عادي» والآخر «لوكس».

اخترت اللوكس رغم أن ثمنها كان أربعة جنيهات هي كل ما كان في حصالتي، وحصلت على ما يثبت أنني أصبحت مراسلا صحافيا، أذكر أنني ذهبت إلى الإسكندرية في ذلك الصيف، وعندما كنت أدخل إلى بلاج سيدي بشر نمرة 2 الخاص كنت أبرز الكارنيه اللوكس وأقول بصوت عالٍ: صحافة، فيسمح لي بالدخول دون أن أدفع الرسوم، وكنت أحس بزهو عظيم.

في ذلك الوقت كان هناك جدل محتدم في البرلمان حول ترميم اليخت الملكي «المحروسة» في إيطاليا، وكانت الحكومة خصصت لهذا الغرض مليون جنيه، وهو الأمر الذي استفز نواب المعارضة، خصوصاً المحامي الكبير مصطفى مرعي بك، والذي قدم استجوابا في هذا الشأن وألقى خطابا ناريا قال فيه كلمته الشهيرة: «اليخت ملك فاروق وليس ملكا للدولة فلماذا تتكلف الدولة بتصليحه؟»، وقد تأثرت كثيرا بالخطاب فكتبت مقالا على خطى مرعي نفسها، وتسللت به في المساء إلى المطبعة، وقمت بدسه في الصحيفة بعد أن خدعت «المطبعجي» في وردية الليل.

حلت الكارثة بالإخلاص، وأغلقت الصحيفة، وألقي القبض على محمد عبدالسلام شتا في قسم أول، لكن سرعان ما دبر أمره، فأفرج عنه خلال ساعات.

عندما اقتربت امتحانات التوجيهية (الثانوية العامة) تبدلت الأحوال، مرض والدي مرضا شديدا، اضطر معه للعلاج في مستشفى «الجمعية الخيرية» في القاهرة، أما أمي فقد أرهقها السفر بين طنطا والقاهرة، واضطربت أحوال البيت، وكنت أنا وإخوتي في غم دائم، فأنهيت الامتحان بصعوبة، ولم أحصل إلا على 60% بالكاد.

كانت صدمة قاسية للعائلة التي كانت تتوقع لابنها المتفوق دائما أن يدخل الطب ويلبس البالطو الأبيض وينادونه: «يا دكتور».

«كنز» المستشفى

بدأت أجمع كتب التوجيهية مرة أخرى وأعد نفسي للامتحان، إلا أن نوبات الصداع كانت تتكرر بسرعة أكبر وحدة بالغة، ولم أكن أستطيع القراءة أكثر من دقائق معدودة، وظن الجميع في بداية الأمر أنني أحتاج إلى نظارة طبية لكن نظري كان سليما، وهكذا صحبني أبي إلى القاهرة حيث طفنا بأطباء في كل التخصصات عدا أمراض النساء والأطفال.

وهكذا قفلنا عائدين إلى طنطا ونحن في حيرة، والصداع لايزال على حاله، وكان التفسير المنطقي الذي توصلت إليه صديقات أمي، بعد أن أمضين معها يوما كاملا يبحثن فيه الأمر، هو أن «الولد معمول له عمل».

وهكذا جيء برجل معمم إلى البيت، وأعدت له غرفة مظلمة، خرج منها بعد ساعة ليعلن على الجميع أن الولد «معمول له عمل» فعلا، وأن هذا العمل مدفون في الحقول المجاورة لمستشفى طنطا الأميري، وأننا يجب أن نخرج في اليوم التالي في الفجر لنبحث عنه ونبطل مفعوله، وعندما جاء الرجل بالحنطور مع أول خيط من خيوط النهار نزلت إليه مع أبي الذي كان ممتعضا امتعاضا شديدا لتورطه في كل هذه الرواية، لكنه حاول إخفاء شعوره، وتوقف الحنطور بنا بجانب سور المستشفى، ونزل الرجل معصوب العينين ونحن خلفه، وعندما أمسك بالسور بيده، خطا ثلاث خطوات عدَّها بحرص، ثم توقف وخلع منديله من فوق عينيه ونادى على واحد من الفلاحين الذين كانوا يعملون في الحقل بالقرب منا: «افحت هنا يا جدع»، وإذا بخرقة ملفوفة في قطعة من القماش القذر تظهر من باطن الأرض فيتلقفها الرجل بيده متلهفا كما لو كان قد وجد كنزا.

نصيحة العم

عاد بنا الحنطور إلى البيت، حيث طلب الرجل طشت غسيل مليئا بالماء، ونثر فيه كثيرا من الملح وهو يقرأ القرآن ويفك اللفافة بيديه، حتى ظهرت بداخلها ورقة ملفوفة بعناية فقال الرجل إنها العمل، وعندما هَمَّ بإلقاء الورقة في الماء أطبق والدي على يده وصمم على أن يقرأ ما في الورقة، حاول الرجل أن يقنع والدي بأن من يلقي نظرة واحدة على العمل تعمى عيناه، لكن والدي لم يتراجع، وقد ازداد إعجابي لحظتها به، ولم أكن أتخيل أنه يخفي وراء وجهه السمح كل هذه القوة والحزم.

وبدأ والدي في قراءة الورقة، ولم يجد مكتوبا فيها الا آيات من القرآن فتساءل: كيف يجلب كتاب الله الضرر؟ وفوق هذا وذاك لم يجد ذكرا لاسمي في الورقة، فطرد الرجل شر طردة، ومنذ ذلك الحين وأنا لا أصدق الدجالين أو أتعامل مع العرافين.

وعندما اشتد بي الصداع، وكانت حدته قد وصلت إلى درجة أنني لم أكن أستطيع النوم إلا بصعوبة، ولم تنفع المهدئات أو المنومات، فنصح عمي أبي أن أدخن سيجارة عندما أدخل سريري، فربما دارت بي رأسي ونمت، وهكذا كانت أول سيجارة في حياتي هي تلك التي أوقدها لي عمي بينما كان أبي واقفا إلى جواره، ولم أنم ليلتها، ولم أقلع عن التدخين منذ ذلك الحين.

فاتني الدور الأول من امتحانات التوجيهية ولم يكن قد تبقى على الدور الثاني الا شهران، لكنهما كانا كافيين مع دأبي وإصراري، ودخلت الامتحان، وأهلني مجموعي بـ74.5% لدخول كلية طب قصر العيني، فعم الفرح الأهل والمعارف، وبدأت في الاستعداد للرحيل إلى القاهرة.

قنديل والمرأة

يتحدث قنديل في مقدمة مذكراته عن معرفة الرجل بالمرأة بنبرة ساخرة فيقول: لو خيرت لاقتفيت أثر صديقي رجل الأعمال ممدوح عبدالغفار الذي فاجأني منذ نحو عشرين عاماً بكتابه الأول والأخير، وكان عنوانه بالإنكليزية WHAT MAN KNOW ABOUT WOMEN?، أي «ما الذي يعرفه الرجال عن النساء؟» كان الكتاب ضخما وغلافه أنيقا جدا، في صفحته الأولى كانت المقدمة سطرين: «هذا الكتاب ألفه رجل ذو رؤية... وضع خلاصة تجاربه في الحياة مع النساء وسلوكهن وأخلاقهن في هذا الكتاب النافذ البصيرة»... وعندما بدأت أتصفح صفحاته المئتين، كانت كلها بيضاء من أول صفحة حتى آخر صفحة!.

نوبات الصداع

قادني مجموعي في الثانوية العامة إلى واحد من اختيارين؛ إما كلية العلوم وإما معهد الكيمياء الصناعية، وكان أبي يتكهن بأن للتعدين والبترول مستقبلا كبيرا في مصر؛ ولذلك رجح كفة كلية العلوم، بل وقال: «اعمل حسابك من الآن، عندما تبدأون في التخصص، فسوف تدرس في قسم الجيولوجيا»، وكانت كلية العلوم المتاحة هي علوم الإسكندرية.

كانت نقلة ثقيلة في حياتي من البيت الدافئ إلى المجهول، سافرت مع والدي إلى الإسكندرية، وكان لنا هناك أقارب يعيشون في حي فيكتوريا، طلب والدي منهم أن يساعدونا على إيجاد مسكن لي يفضل أن يكون «مع ناس طيبين»، واهتدينا إلى عائلة يونانية، كانا زوجين في الستينيات من عمرهما، وكانت الشقة نظيفة، فاتفقنا مع الرجل على السكن والإفطار مقابل 12 جنيها في الشهر، واشتركت في مطعم مجاور للكلية لتناول الغداء فيه مقابل أربعة جنيهات أخرى.

أذكر أنني اشتريت كتبا كثيرة، وكان معظمها بالإنكليزية، وكنت أستغرق في الدراسة إلى حد أنه لم يكن يغريني في المدينة الكبيرة شيء سواها، ولم يكن لي أصحاب ولا رفاق أزورهم ويزورونني، وداهمتني نوبات من الصداع لم أكن أعرفها من قبل، ولم يمضِ شهران حتى استولى عليَّ شعور جارف بأن أعيد امتحان التوجيهية وأحصل على مجموع أستعيد به كرامتي وسط أقراني وأعيد به البهجة إلى الأسرة، وأظن أن هذا كان دافعا مهما لعودتي إلى طنطا، وأعتقد أن أبي وأمي لم يمانعا في ذلك بل ربما كانا يحبذانه.

back to top