أوروبا ومعاداة أوروبا

نشر في 03-06-2014
آخر تحديث 03-06-2014 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت لقد أطلقت انتخابات البرلمان الأوروبي عملية مؤلمة من إعادة النظر، ليس فقط في الكيفية التي يعمل بها الاتحاد الأوروبي، بل وأيضاً الأسباب الجوهرية التي قام من أجلها. وقد أظهرت النتائج بوضوح أن أوروبا الآن لم تعد واحدة بل اثنتين: فهناك أوروبا التي يشكل التكامل جزءاً راسخاً من نظامها السياسي وترتيباتها الاجتماعية؛ وأوروبا التي تنبذ الافتراضات الأساسية التي يستند إليها مبدأ السيادة المجمعة.

النبأ السار هنا هو أن القسم الأعظم من أوروبا ينتمي إلى الفئة الأولى؛ والنبأ السيئ هو أن الاستثناءات تشمل بلدين في غاية الضخامة والقوة.

الواقع أن المناقشة حول أوروبا ليست مجرد مناقشة لمزايا حل مؤسسي أو فني أو غيره لمشكلة التنسيق السياسي؛ فهي تدور في واقع الأمر حول الكيفية التي قد تتمكن بها المجتمعات من تنظيم أنفسها بنجاح في عالم تحكمه العولمة. وحتى وقتنا هذا، كان التصميم المؤسسي يحظى بالقدر الأكبر من التركيز، ولم تنل الدينامية الاجتماعية والإبداع القدر الكافي من الاهتمام.

قبل الانتخابات كان أنصار أوروبا ينظرون إلى التصويت المقبل باعتباره دليلاً على أن نمطاً جديداً من الديمقراطية ينشأ في عموم الاتحاد الأوروبي. وستبدو أوروبا أقرب إلى دولة، حيث تقترح الأحزاب السياسية على مستوى أوروبا المرشح الأوفر حظاً لكي يصبح الرئيس المقبل للمفوضية الأوروبية.

لكن المتشككين في أوروبا ردوا على ذلك بأن النظام السياسي الجديد لن يفلح. فسيتعامل الناخبون مع الانتخابات كما كانوا يفعلون دوماً في الماضي: باعتبارها فرصة للاحتجاج، ولكن ليس ضد أوروبا بقدر ما هو ضد حكوماتهم الوطنية. وهم سيصوتون أيضاً ضد التقشف، الذي فُرِض عليهم كجزء من استراتيجية الاتحاد الأوروبي في الدفاع عن الاتحاد النقدي.

لكن المتفائلين والمتشائمين كانوا على خطأ. فلم تسفر الانتخابات عن ظهور أي زعيم أوروبي واضح، ومن المرجح أن تكون المساومات السياسية بين حكومات الاتحاد الأوروبي حول رئيس المفوضية المقبل مطولة، وأن تبدو أبعد ما تكون عن الديمقراطية. في الوقت نفسه، ورغم عناوين الصحف الرئيسية التي تقول العكس، لم تكن هناك موجة موحدة من مناهضة أوروبا، أو خيبة الأمل إزاء المشروع الأوروبي.

الواقع أن الناخبين في العديد من البلدان، بما في ذلك بعض التي كانت الأشد تضرراً من جراء الأزمة المالية والاقتصادية، أظهروا تأييدهم لكل من حكوماتهم والمشروع الأوروبي. وكان التأثير المؤيد لشاغلي المناصب ملحوظاً في إسبانيا، وبشكل أكثر دراماتيكية في إيطاليا، حيث هزمت الحكومة الإصلاحية الجديدة بقيادة ماتيو رينزي كل التوقعات بأن الإيطاليين سيدلون بأصواتهم في تصويت احتجاجي آخر. وفي أوروبا الشرقية، تفوق المنبر المدني الحاكم على المعارضة القومية، بينما أيد الناخبون في بلدان البلطيق، حيث كانت التأثيرات المترتبة على التقشف هي الأكثر شدة على مستوى الاتحاد الأوروبي بالكامل، مرشحي البرلمان الأوروبي المنتمين إلى الوسط.

وكان الضعف غير المتوقع، الذي اعترى اليمين الشعبوي في هولندا، والأداء القوي الذي أظهره الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم في ألمانيا، انعكاساً لنفس الظاهرة: عودة الاستقرار السياسي وتجدد الثقة بالنفس في قلب أوروبا.

لكن عبر نهر الراين والقناة الإنجليزية بدت الأمور مختلفة تماما، ففي كل من فرنسا والمملكة المتحدة، تسبب نجاح الأحزاب الشعبوية المتمردة في زعزعة أركان المشهد السياسي. ففي كلا البلدين هُزِم الحزب الحاكم -الحزب الاشتراكي في فرنسا وحزب المحافظين في بريطانيا- بل واحتل المركز الثالث.

ووصف رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس انتصار جبهة مارين لوبان الوطنية اليمينية المتطرفة بالزلزال السياسي. ورغم أن انتصار الجبهة يمكن إرجاعه ببساطة إلى انعدام شعبية الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند وحكومته، فإن الانتصار المماثل الذي حققه حزب الاستقلال في المملكة المتحدة لا يمكن تفسيره على أنه تصويت احتجاجي ضد الحكومة الائتلافية، التي تشرف على تحقيق التعافي الاقتصادي. الواقع أن الانتصار المذهل الذي حققه حزب الاستقلال في المملكة المتحدة كان بمنزلة رفض شعبي واضح لأوروبا، خاصة الهجرة من الاتحاد الأوروبي.

إن نتائج الانتخابات في فرنسا وبريطانيا تعكس الانحرافات الأشد عمقاً في كلا البلدين بعيداً عن النمط الأوروبي. فبادئ ذي بدء، يدفعهما إرثهما الإمبراطوري إلى التصرف كمثل القوى العظمى في القرن التاسع عشر، وليس كجزء من العالم المترابط الذي تحكمه العولمة في القرن الحادي والعشرين. وينعكس هذا في نماذجهما الاقتصادية. ففي بريطانيا، يعكس الاعتماد المفرط على الخدمات المالية الرأي القائل بأن التمويل هو النشاط التنسيقي المركزي في الحياة الاقتصادية، والذي بدا أكثر منطقية في القرن التاسع عشر.

وبالنسبة لفرنسا، يكمن الضعف المعادل في الميل إلى عملقة الشركات. فهناك شركات صناعية كبيرة ناجحة جدا، وأغلبها تتمتع بعلاقات قوية على الصعيد السياسي، وشركات أخرى ضئيلة أشبه ببقايا بلد مفقود. ولكن درع الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تعطي ألمانيا وإسبانيا القدرة على تعزيز روح المغامرة التجارية وتحقيق النجاح الاقتصادي تكاد تكون مفقودة تماماً في فرنسا.

تدير كل من بريطانيا وفرنسا مناقشات نشطة حول كيفية تغيير النماذج الاقتصادية. ويريد بعض الإصلاحيين في الحكومة المزيد من برامج التدريب على النمط الألماني؛ وهناك أحاديث عن إعفاءات ضريبية للشركات الصغيرة، وعن تخفيف الأعباء التنظيمية المفرطة التدخل.

الحق أنه من الصعب أن نرى كيف قد تتمكن بريطانيا أو فرنسا من البقاء على أساس من الحنين إلى الماضي. وإصلاح البلدين مهمة لا تقل إلحاحاً عن إصلاح النظام السياسي المعقد الذي اعتراه الصدأ في أوروبا. وهذا يتطلب ما هو أكثر من مجرد تكييف وتعديل الإنفاق العام وتقديم بعض مشاريع البنية الأساسية العالية التقنية؛ فهو يعني إعادة خلق الأساس لمجتمع أكثر ديناميكية.

ويشكل الإصلاح الداخلي في القوتين الإمبراطوريتين الكبيرتين السابقتين في أوروبا أيضاً عنصراً أساسياً في إنجاح أوروبا. وفي حين أنه من المتصور أن يظل المشروع الأوروبي باقياً من دون بريطانيا، فإن أوروبا الموحدة لا يمكن تصورها في غياب فرنسا.

* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ في جامعة برينستون، وكبير زملاء مركز إبداع الحوكمة الدولية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top