جاءني صوته لاهثاً من مدينة "غازي عنتاب" التركية، يسأل بإلحاح عن الصحة والأولاد والأحوال والأمن في ظل "ما تشهده مصر من صراعات وأعمال عنف واسعة"، ويعرب بأسى شديد عن تخوفاته من أن تصبح مصر مثل بلده سورية.
هو صديق سوري، نزح إلى تركيا في أعقاب الأحداث التي ضربت بلاده منذ عام 2011، وقد اتصل معرباً عن قلقه بعدما فهم من وسائل الإعلام التي يتعرض لها أن الأوضاع في مصر "على شفا الانهيار"، وأن "الانقلاب يكاد أن ينكسر"، وأن "العنف في الشوارع والجامعات بات خارج أي سيطرة".سألت الصديق السوري: "من أين تحصل على معلوماتك عما يجري في مصر؟"، و"هل تعلم أن تركيا أيضاً تشهد تظاهرات ومواجهات بين المتظاهرين والشرطة؟"، و"ما حجم التمرد الذي تشهده مصر راهناً مقارنة بما يحدث في سورية؟". وقد حاول الإجابة عن الأسئلة الثلاثة، لكن إجاباته كانت صادمة ومروعة.في اليوم نفسه، اتصلت بي زميلة من إحدى الصحف المصرية المملوكة للدولة، تسألني عن السبب في أن "حجم الدعاية لرفض التعديلات الدستورية أو مقاطعة الاستفتاء عليها أقل من حجم الدعاية للمشاركة والموافقة"، وتضيف: "لماذا لا تستضيف القنوات التلفزيونية معارضين مثلما تستضيف مؤيدين، بما يعكس حالة الانقسام التي تشهدها البلاد؟".سألت الزميلة بدوري: "هل هناك حالة انقسام تشهدها البلاد راهناً؟"، و"إذا كانت الإجابة بنعم، فما دليلك على ذلك؟".لقد وجهت بدوري خمسة أسئلة إلى الصديق السوري والزميلة الصحافية المصرية، وتلقيت عنها الإجابات، التي يمكن أن تضيء لنا الكثير من جوانب معضلة سياسية صنعها الإعلام.يقول الصديق السوري إن معظم المعلومات التي يحصل عليها عن الأوضاع في مصر وغيرها من الدول العربية وأيضاً تركيا، تأتي إليه من قنوات "الجزيرة" المختلفة.ورغم أنه يقيم في إحدى المدن التركية، فإنه لا يعرف الكثير عن التظاهرات التي تشهدها تركيا ضد حكومة أردوغان، كما أنه لا يلم بتفاصيل فضائح الفساد التي تهز أركان الحكومة.لا تشكل هاتان الإجاباتان صدمة مروعة لمن هو مثلي على أي حال، لكن ما أصابني بالصدمة حقاً كان ما ظهر في إجابته عن السؤال الثالث؛ حيث رأى أن "التمرد الذي تشهده مصر ينذر بالتحول إلى شيء مشابه لما يحدث في سورية"، وقد قالها بلهجته الشامية: "ليك.. هيك بديت عنا" أي: هكذا كنا في بداية الأحداث.في هذا اليوم بالذات (أول أمس الجمعة)، كانت صفحة "فضائية الجزيرة" على الإنترنت تعرض قصتين رئيستين؛ إحداهما عن لقاء مع القاضي "الإخواني" المصري وليد شرابي يهاجم خلاله "الانقلاب العسكري الدموي"، ويدعو إلى رفع دعاوى قضائية ضد "قادة الانقلاب" في مصر في محافل ومحاكم دولية، وثانيتهما عن لقاء مع "أمر الله أشلار" نائب رئيس الوزراء التركي، الذي يتحدث عن "مؤامرة يتعرض لها أردوغان لأنه حقق تقدماً اقتصادياً مبهراً لبلاده"، ويؤكد أن "شعبية رئيس الوزراء التركي زادت منذ أحداث ميدان تقسيم"، التي تم قمع المتظاهرين خلالها بالقوة. أما "الجزيرة نت"، فقد خصصت، في اليوم نفسه، ثلاثة موضوعات لمصر من بين أهم عشرة موضوعات عرضتها على صفحتها الرئيسة؛ الموضوع الأول عن "قتلى وجرحى في تظاهرات" أقامها "الإخوان" ضمن جمعة "لا للدستور"، والثاني عن "تقرير أوروبي يدين الحكم العسكري المصري"، والثالث عن "الفاشية والعسكرة"، وهو عبارة عن مقال رأي ينتقد الفاشية والعسكرة في المجتمعات العربية بالتركيز على مصر باعتبارها "بؤرة الحدث".نعود إلى الزميلة الصحافية المصرية، لنجد أنها قد فهمت أن مصر تعاني "انقساماً" من تعرضها لوسائل الإعلام المحلية تحديداً؛ فهي لا تجد في تلك الوسائل سوى الأخبار عن "المسيرات"، و"التظاهرات"، و"أعمال العنف"، و"المولوتوف"، و"القبض على عناصر إخوانية".يبدو أن تلك الزميلة لديها حق؛ فوسائل الإعلام المصرية تفرط فعلاً في ملاحقة أخبار "الإخوان"، وتفرد لها مساحات كبيرة.لقد استثمرت وسائل الإعلام الخاصة تحديداً في شراء معدات ونشر أطقم وتمديد ساعات الإرسال وإطلاق قنوات إضافية، وهي تريد أن تبث على مدار الساعة، وتبحث عن الأحداث الساخنة، حتى تجلب المشاهدين، ومن ثم تحصل على الإعلانات، التي ترفدها بالموارد اللازمة لدفع نفقات التشغيل، والوفاء بأجور النجوم، التي حققت قفزات قياسية في سنوات قليلة.اشترت قنوات فضائية خاصة في مصر برامج تقنية حديثة تمكنها من ملاحقة الأحداث عبر مراسلين وأطقم في مناطق ساخنة عدة، ولذلك فهي تحرص على أن تزرع كاميرا بجوار كل تظاهرة يقيمها "الإخوان"، وبجوار كل كاميرا هناك مراسل ينقل كل همسة أو حركة مهما كانت اعتيادية أو ضئيلة التأثير.يظل المشاهد مأخوذاً بالشاشة المقسمة إلى أربعة أقسام؛ فهذه تظاهرة في شبرا، وتلك الشاشة تعرض ما قالت إنه "حلوان قبل قليل"، أما الشاشة الثالثة فتعرض صورة لـ"سلسلة بشرية" على شاطئ الإسكندرية، أما الشاشة الرابعة فتعرض صورة لميدان "التحرير" الخالي من أي مارة أو متظاهرين.يشعر المشاهد بأن البلد كله مشلول تحت ضغط تلك التظاهرات، وأن الشاشات إنما تنقل صورة للمليون كيلو متر التي تشكل مساحة مصر، وليس لمئات الأمتار في الشوارع والميادين المصورة، وأنها تصور ما يفعله التسعون مليونا، وليس ما يصدر عن أقل من ثلاثة آلاف مصري موزعين في جغرافيا عريضة وعميقة.يزيف الإعلام المصري وعي الجمهور عندما يمنح تظاهرة لا تضم سوى 300 متظاهر في حارة جانبية بإحدى ضواحي القاهرة ساعة من البث المتواصل. يزيف الإعلام وعي الجمهور عندما يصور عشرين شاباً على شاطئ البحر على أنهم "سلسلة بشرية"، وعندما يتوقف عن بث أي أخبار أو مقابلات أو تقارير بخصوص كل مجالات الشأن العام لمصلحة بث "أخبار التظاهرات المحدودة الخائبة".تفهم الزميلة الصحافية من متابعتها للإعلام المصري أن ثمة "انقساماً" في مصر، وهو فهم غير صحيح على الإطلاق.تقف الرئاسة، والحكومة، والبيروقراطية، والقضاء، والإعلام، والجيش، والشرطة، والمجتمع المدني، والأزهر، والكنيسة، والدعوة السلفية، والنخب الثقافية والسياسية والفنية، والقطاع الغالب من الشعب المصري، كما ظهر في 30 يونيو 2013، في جانب، و"الإخوان" وبعض حلفائهم المتطرفين في جانب آخر.لا يعد ذلك انقساماً بأي حال، ولا يتطلب ذلك أن يكون هناك شخص معارض مقابل كل شخص مؤيد في أي برنامج تلفزيوني أو مناظرة صحافية.إنها لعبة التوازن المصطنع. التوازن في التغطية الإعلامية هو أن نعكس الأوزان النسبية للقوى الفاعلة على الأرض في التغطية، بما يتطلبه ذلك من تخصيص مساحات متكافئة، وليس متساوية، للأطراف المتفاعلة.وبناء على ذلك، فإن التوازن في تغطية ما يفعله "الإخوان" في مصر الآن لا يعطيهم مساحة أكبر من تلك الممنوحة لبقية الأنشطة والقوى الفاعلة والقطاعات، لأنهم ببساطة لا يشكلون أكثر من ربع الزخم والتفاعل الجاري على الأرض.التوازن في التغطية الإعلامية لما يجري في مصر بشأن التعديلات الدستورية، لا يستلزم وضع معارض مقابل كل مؤيد في أي حصة تلفزيونية، ولكنه يستلزم أن يشكل المعارضون في التغطية الإعلامية نسبة تتكافأ مع وجودهم على الأرض، وهي في تقديري لا تتعدى الـ30% بأي حال من الأحوال.يقدم الإعلام صورة زائفة عن مصر، وما يجري فيها، وهو أمر يمكن أن يكون مفهوماً من قناة "الجزيرة"، التي تحولت إلى منبر تحريض وإثارة للفتنة لتقويض أركان الدولة المصرية، لكنه غير مفهوم حين يصدر عن وسائل الإعلام المحلية.بسبب حدة المنافسة، وعدم فهم معنى قيمة التوازن في التغطية الإعلامية يتم حرف الجمهور عن حقيقة ما يجري في مصر. والواقع أن مصر لا تشهد انقساماً، ولا تغرق في الفوضى، وليست في طريقها إلى ذلك، وهو أمر سيكتشفه قريباً الجمهور المخدوع نتيجة تعرضه لوسائل إعلام مغرضة أو غير مهنية.تمضي مصر بصلابة وتصميم لتفعيل "خريطة طريق المستقبل"، وأفعال "الإخوان" تتقلص على الأرض أو تفقد صوابها، وتتحول إرهاباً سافراً بلا رؤية أو قدرة على الاستدامة، وهو أمر لم يعكسه الإعلام حتى الآن بأمانة. * كاتب مصري
مقالات
بخصوص مصر... الإعلام يخدعكم
12-01-2014