في مقدمته لكتاب {المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال... التجربة العراقية}، يعتبر الكاتب سلام عبود أن العنف هو العدو، والشر خصم أبدي، والخضوع آفة كريهة مستهجنة. هذه هي مادة ومنظور الكتاب وغاياته، معروضة عن طريق نماذج وحالات دراسية، مستقاة من حياة المجتمع العراقي، يشغل حيزاً كبيراً فيها موضوع التحولات التي طرأت على الممارسة والفكر الشيوعيين، تزامناً مع وقوع العراق تحت سلطة الاحتلال الأميركي.

Ad

يضيف عبود بأن ضمور حجم اليسار، وخفوت صوته، وتشتته، علامة كبيرة من علامات التدني في الممارسة السياسية والاجتماعية الوطنية. فلم يزل هذا التيار، رغم سقوط المنظومة الشيوعية قادراً على أداء دور اجتماعي وثقافي وسياسي كبير وضروري في مجتمعاتنا العربية، وفي المجتمع العراقي خصوصاً. فاضطراب صوت وإرادة اليسار نتيجة طبيعية من نتائج سياسة الاحتلال عموماً، ومن نتائج ضعف مقدرات مثقفي هذا اليسار على أداء دور وطني واجتماعي متميز، ناقد وخلاق وجريء، يمنحهم الحق في الوجود والاستمرار والترقي. فانحسار دور التيارات الاشتراكية والديمقراطية نتيجة قاسية، وخسارة وطنية جسيمة، وإفقار خطير للواقع السياسي والاجتماعي والثقافي.

ما الدور الذي يتحمله المثقف اليساري والديمقراطي في صناعة هذا التدهور؟ وهل يستطيع اليسار إعادة النظر في واقعه لأجل تغييره؟ هذه الأسئلة هي محور بحث هذا الكتاب، معروضة من طريق رصد المواقف والأفكار والممارسات الثقافية، وتحليل حالات عيانية منها، وربطها بالواقع وبالبيئة التي أنتجتها.

يشير عبود إلى أن الكتاب لا يضع حلولاً، لكنه يشير، على نحو صريح وصادق، إلى مناطق الخلل في الممارسة الفكرية، ومواطن الفساد في الانشغالات العقلية والسلوكية والنفسية للعاملين في مجال الكتابة، من اليساريين والديمقراطيين المستقلين، الذين يتحملون المسؤولية الكبرى في هذا التدهور.

يرى عبود في كتابه، أن الصراع بين النظم الاجتماعية الاقتصادية المتنافسة كان مصدراً أساسياً من مصادر التقدم العالمي على الصعد كافة: الاقتصادية والعقلية والحقوقية والمدنية. فأثر الصراع على أطراف النزاع كافة، وأثرى التجربة البشرية. أما الصدام العسكري مع الإرهاب الديني، بالمعنى الذي تريده السياسة الأميركية، فهو تجميد تام لحركة التاريخ، وعودة بالجدل السياسي وبالتنافس الاجتماعي والثقافي إلى أشكاله الأكثر تدنياً وتسطيحاً، جرى استخدامه لما هو أبعد من خطط محاربة الخصوم، فقد أضحى سبباً دولياً للانقضاض على النجاحات التي حققتها المجتمعات كافة، بما فيها النظم الرأسمالية نفسها. فالصراع ضد ابن لادن يجعل من محمد مرسي النموذج الأسمى للربيع العربي، ومن قادة الجيش والمخابرات الإسرائيليين النموذج الديمقراطي الأعلى عالمياً. التاريخ يعود إلى الوراء قروناً عدة.

موقف مرتبك

يتابع سلام عبود، أن القيادات الشيوعية العراقية، والمثقفين المرتبطين بها، وقفوا أمام هذا التغيير الكبير موقفاً شديد الارتباك، يعكس هشاشة التكوين التاريخي لثلاثة أجيال من القيادات السياسية التي نشأت في ظل الهيمنة العرقية على كيان الحزب، وفي ظل الاغتراب السياسي الطويل، والعبادة الشكلية للطوطم الروسي، والتربية الخاطئة التي تستمد مثالها من جهاز حكومي شمولي متخلف قائم على العوز والتسلط، لا من الواقع أو من المثال الثوري. ولقد كان سقوط الدكتاتورية البعثية مقروناً بالاحتلال فرصة نادرة أمام اليسار العراقي كي يعيد تنظيم جدول أعماله على قاعدة جديدة وفريدة، قوامها الإفادة من غياب سلطة الديكتاتورية لتشكيل أوسع جبهة ديمقراطية، وللوقوف ضد الاحتلال بالمشروع الوطني، وضد الطائفية بالمشروع التقدمي، وضد العرقية بالوحدة العراقية، وضد الحرب والعنف الإرهابي بمشروع النضال المطلبي والسياسي والفكري، في الحد الأدنى. بيد أن ذلك كله لم يحدث، وذهبت القيادات الشيوعية ومثقفوها إلى التفتيش عن الحلول في مكاتب المحتلين والقوى العرقية والطائفية.

حسب سلام عبود، فإن ما يحدث في العراق درس فريد، لكن الخطر يكمن في أن كثيرين يعتقدون أنه شأن عراقي خالص. النموذج العراقي خاص حسياً، لكنه قد يغدو مثالاً للتطبيق إن توطدت أقدام القوى الراعية لهذا النموذج، وحينذاك سينفجر السؤال الذي واجه العراقيين عشية الغزو الأميركي، ولكن بسبل أكثر التواءً ومكراً. حينذاك سنعرف كيف تتم مواجهة الموقف، وما إذا كانت أزمة القيادة اليسارية العراقية وأمراض اليسار العراقي خاصة أم قابلة للتكرار وتسري على اليسار العربي عموماً، وما إذا كان الواقع العراقي لا ينتج عوامل مشابهة في بلدان عربية ترتبط  مع العراق بمشتركات كثيرة تؤثر في إنتاج الفكر والممارسة. فغياب الاشتراكية الديمقراطية صفة مشتركة عربياً.

لقد أنتج الواقع العربي، ببنيته الراهنة، لونين أساسيين من الاشتراكية: الاشتراكية الماركسية، التي هي صورة طبق الأصل من الاشتراكية البلشفية وتفريعاتها، والاشتراكية القومية، التي هي في أحوال كثيرة صيغة محورة من صيغ الاشتراكات الوطنية، ببعديها العرقي والشمولي. ولم يتح ضعف البنى الاجتماعية ولادة تيار قوي يعادل تيار الاشتراكية الدولية الذي كان ولم يزل عنصر جدل فاعل أسهم في قيادة كثير من المجتمعات الأوروبية، وفي {تهذيب} حركة التيارين السابقين، وأوجد مساحة للاحتكاك والاصطفاف والتجديد في الجبهتين السابقتين المتناحرتين. ويتساءل هنا المؤلف: أفلم يكن غياب تيار يعادل {الاشتراكية الدولية} وزناً ومضموناً عاملاً من عوامل التطرف في التخلي عن الثوابت لدى القيادات الشيوعية العراقية، وفي اضطرار الشيوعيين العراقيين إلى التحالف مع قوى مغايرة تماماً لمبادئهم المعلنة؟ أليس هذا السبب أحد عوامل الانقلاب الشديد في نفسية الفرد الحزبي وفكره عند الهزات والانقلابات السياسية العميقة أو عند سقوط مثاله السياسي؟ أليس عاملاً موضوعياً من عوامل تضييق الاتجاه نحو الحل اليساري، كإطار وطني تقدمي يقوم على أنقاض النموذج الشيوعي السابق أو بالتوازي معه؟ هذه الأسئلة وغيرها تواجه الجميع، وما تجربة العراق سوى تمرين خاص وحسي ونموذجي على سبل التغيير... إلى الأسوأ أو الأفضل.