يبدو لي أن أقرب الروايات إلى وجدان القارئ تلك التي تتخذ من إيقاع الحياة المعيشة أسلوباً وتوجّهاً. تلك التي تخلو من الحبكات المفرطة في التعقيد، والمصادفات الغريبة، والميلودراما الفاقعة. تلك التي تجعلك تسير جنباً إلى جنب مع الاعتيادية، والألفة، ودبيب الأشياء كما يقبلها العقل وتصدقها البديهة السليمة، وكما تجيء بها ظروف الحياة ومسيرة الحوادث والأيام. وألفتنا لهذا اللون من الكتابات ليس تجنباً لألاعيب الخيال وسياحاته التي كانت منذ الأزل المادة الأولى للقص والحكاية، وإنما بسبب أن الرواية المعبّرة عن إيقاع الحياة ومنطقيته أكثر التصاقاً بنا الآن، وبقضايانا الراهنة، وأكثر مساساً بذواتنا التي لا تريد أن تمرّ بها سيرة الزمان والمكان والتاريخ الراهن، دون مزيد من التأمل والتحليل والاسترجاع المتأني.

Ad

أراني أدبّج هذه المقدمة وأنا بصدد تأمل روايتي «ذات» لصنع الله إبراهيم، و«فَرَج» لرضوى عاشور. فكلتا الروايتين لا يعنيهما الإبهار في التقنية، أو الاشتغال بأدوات مفرطة في الدلالة الفنية. وإنما كانت الروايتان أشبه بتدوين يوميات لشخوص وأحداث من لحم الحياة الحي، ومن الأخبار اليومية، وإحداثيات السياسة، والعلاقات الإنسانية في تقاطعاتها المختلفة، عن المتغيرات الاجتماعية، عن الفساد، عن الحراك الشبابي، عن القمع، عن الانتهازية والوصولية، عن الأحلام المؤجلة، وعن الخيبات والهزائم، عن الباحثين عن موطئ قدم ونافذة رغم كل ذلك. فكيف لا تكون في قلب الحياة وأنتَ تجاور كل هذا الزخم؟!

حين تحولت رواية «ذات» إلى مسلسل تلفزيوني اكتسبت المزيد من الاقبال والتقدير، ليس لسعة أفق المخرجة، وقدرتها على التوليد والإضافة والرؤية، فحسب، بل لاشتغالها أيضا بحكاية هي حكاية كل مصري بذاته، عاش الفترة التاريخية ما بين ثورة 1952 إلى الآن، ومرّ بظروف ومتغيرات هذه الحقبة، وبات يرى نفسه في «ذات الهمة» و»عبدالمجيد» أو في أي من أقاربهما أو أصدقائهما، أو في ما مرّا به من أحداث وظروف وطموحات وانتكاسات.

أما رواية «فَرَج» لرضوى عاشور فتكاد تنحو ذات المنحى في سرد سيرة حياة «ندى عبدالقادر» التي ولدت أيضاً في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، لترى نفسها ابنة لمعتقل سياسي في عهد جمال عبدالناصر، فيتلبسها الهمّ الوطني جنباً إلى جنب مع همومها الإنسانية الأخرى إزاء الأسرة والأصدقاء والدراسة والعمل والنشاطات الطلابية والسياسية.

ومن داخل هذا المعترك تحاول ترتيب أولوياتها والسير مع تيار الحياة، دون اجتراح لبطولة أو خروج عن نطاق ما يُستطاع. إنها أيضاً عيّنة لمواطنة مصرية، تتأمّل في مجريات حياتها، تحلل، تسترجع، تستيقظ فيها مشاعر معتّقة، وحنين وآلام، ووجوه غاربة. وهي في استعاداتها تحاول أن ترمم الماضي، وتكتب عنه، وتقف عند بعض مدلولاته وعلاماته الفارقة.

رغم ذهاب الروايات كل مذهب في انتقاء القضايا مدار الكتابة، فإن الهموم الجمعية التي تندرج تحت ما يسمى التاريخ الاجتماعي / السياسي، تبقى هي الرافد الأهم والأبقى في تاريخ الرواية عالمياً. ونظرة سريعة لأهم النماذج المؤثرة في المشهد الروائي العالمي تبين صدق هذا الافتراض، فروايات مثل «الحرب والسلام» و»دكتور زيفاجو» و»ذهب مع الريح» و»البؤساء» و»ثلاثية نجيب محفوظ» وغيرها، كانت ولاتزال إرثاً معبراً عن الكوارث البشرية والحروب الكبرى والمتغيرات السياسية والاجتماعية في حياة الشعوب، وستظل متداولة ومقروءة أو مشاهَدة في أفلام سينمائية، بسبب ارتكازها على هذا البُعد الجمعي اللصيق بضمير الشعوب وتاريخها الإنساني. ولأنها ببساطة تعكس وجه الإنسان في عموم بشريته حين يرى نفسه امتداداً لهذا الإرث والتاريخ.