على قدر ما يعرف أي مجتمع سماته الفارقة وتقلبات حياته عبر تاريخه الاجتماعي والسياسي، على قدر ما يهمه أن يرى هذه السمات والمتغيرات في عين الآخر، لذلك كثرت الترجمات لكتب المستشرقين والرحالة من الذين دونوا تجاربهم إبان مرورهم ببلداننا أو إقامتهم فيها ردحاً من الزمن. بل أصبح الإقبال متزايداً على هذا النمط من المؤلفات التي تشبع الفضول حول مسألة كيف يرانا الآخرون. ولم تقف أهمية هذه الكتابات التوثيقية عند مسألة إشباع الفضول، بل أصبحت وثائق تاريخية أساسية يمكن الاستعانة بها في كتابة تاريخ المنطقة ورصد حراكها الاجتماعي والسياسي خاصة في القرنين المنصرمين.

Ad

"رحلة الكويت: التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي" هو أحد هذه الكتب التي ترسم مشاهد الحياة في الكويت من أواخر الأربعينيات وحتى أوائل السبعينيات من القرن الماضي. أما مؤلفه فهو جون دانيالز الذي بدأ حياته دبلوماسياً في العديد من بلدان الشرق الأوسط ، ثم أخذته الظروف الى العمل في الشؤون المالية والعلاقات الحكومية في القطاع النفطي في الكويت التي أمضى بها قرابة 15 سنة، ليتفرغ بعدها لإعداد هذا الكتاب الذي يحتوي على مشاهداته لمجتمع ينمو ويتطور ويشب عن الطوق، أما مترجم هذا الكتاب فهو عطية بن كريم الظفيري.

ويبدو أن المؤلف استطاع بعينه الراصدة أن يحدد أهم معالم تلك المتغيرات في الكويت إبان تلك الفترة، فتحدث عن الدستور والديمقراطية الوليدة ونظام الحكم، ثم عرّج على أزمة عبدالكريم قاسم التي عاصرها شخصياً، ثم تناول بإسهاب دور القطاع النفطي الذي يعرفه عن قرب، فالحديث عن تطور الخدمات التعليمية والصحية والتغيّر الاجتماعي الذي أحدثته الثروة النفطية.

يقول دانيالز في فصل بعنوان "رمضان استثنائي": "استيقظنا صبيحة اليوم الثالث من رمضان على حدث كبير، هو الاحتفال بافتتاح أول جلسة لمجلس الأمة أو البرلمان. وكنتُ محظوظاً عندما شاهدتُ ذلك المشهد حيث قام سمو الأمير الشيخ عبدالله السالم الصباح في صبيحة يوم 29 يناير 1963 بافتتاح أول جلسة لبرلمان كويتي".

"إن شبح الصمت الاعتيادي السائد في رمضان سرعان ما شق جداره أنباء سارة مفادها أن خصم الكويت الكبير قد قُتل، والخصم هو بالطبع عبدالكريم قاسم الديكتاتور العراقي والذي كانت مطالبته المأساوية بضم الكويت منذ يونيو 1961 ما برحت تنشر ظلالاً من القلق على المنطقة. وفي نفس اليوم الذي وصلت فيه أخبار مقتل قاسم قامت تظاهرات الفرح العارمة بالقرب من قصر دسمان. وانطلق الشباب المبتهجون في مسيرات كبيرة وهم يحملون الرايات وصور الأمير وصور الرئيس عبدالناصر وعلت أصوات الهتافات مبددة هدوء نهار رمضاني. وفي اليوم التالي قام الشيخ عبدالله الجابر بصفته وزيراً للتربية بقيادة تظاهرات تلاميذه في ساحة الصفاة ، وأثار التلاميذ كثيراً من الصخب مع أنهم في شهر رمضان".

"وكما هو المعتاد كانت أصوات طلقات المدفع في الصباح الدليل على بداية الاحتفال بالعيد، وضاعف من مظاهر الفرحة امتزاجها باحتفالات مقتل عبدالكريم قاسم، فعم الفرح الأرجاء ورفرفت الأعلام الكويتية عالياً فوق المباني الحكومية، وزينت الشوارع بالرايات على طولها، كما رفعت سيارات الأجرة المزيد من الأعلام وهي تجوب الشوارع الفسيحة الحديثة".

"وفي مناسبات الأعياد كعيد الفطر، كانت النساء والأمهات الكويتيات يحصلن على حريتهن، فيخرجن من بيوتهن ويذهبن إلى ساحة الصفاة حيث يشاهدن الرجال وهم يؤدون رقصة السيف التقليدية المعروفة باسم (العرضة). وفي هذه الرقصة تجد المشاركين وهم يلوحون بسيوفهم عالية فوق رؤوسهم ويتمايلون داخل دائرة عريضة مرات ومرات، يغنون ويضربون الطبول".

هذه المشاهدات مضى عليها خمسون عاماً من الزمان، والسؤال: مَنْ يا ترى سيعتني بتسجيل تفاصيل حياتنا الآن ليقرأها جيل آخر بعد خمسين عاماً أخرى؟