تعالت صيحات الفزع من خطورة المخطط الذي يستهدف تقسيم العراق إلى 3 دويلات طائفية إثر اكتساح مسلحي تنظيم "داعش" محافظات ومدناً عراقية تهاوت سريعاً في قبضتهم، بعد أن استولوا على مناطق واسعة من سورية، مشكلين "الدولة الإسلامية في العراق والشام" في إلغاء للحدود الجغرافية بين الدولتين، ولم يكتف "داعش" بهضم ما احتله، بل هدد بالزحف إلى بغداد لهدم المراقد والأضرحة لأئمة الشيعة وغيرها من أماكن العبادة والمزارات المقدسة في كربلاء والنجف وسامراء والكاظمية؛ مما ولّد رد فعل مقابلاً من آلاف المتطوعين الذين استنفروا للدفاع عن المقدسات الشيعية.

Ad

 في أجواء هذه الصراعات المسلحة التي تستهدف إضعاف الدولة الوطنية تنشط نظريات التآمر الخارجي التي تريد تمزيق العراق خدمة للأعداء المتربصين، وتفتح خرائط التقسيم الجديدة، لحساب دويلات الطوائف المتناحرة، ويتم إحياء ذكرى اتفاقية "سايكس- بيكو" التي بموجبها تقاسمت فرنسا وبريطانيا دول المنطقة قبل 100 عام، ودخلت واشنطن على الخط محذرة من مخاطر تستهدف المنطقة نتيجة تفاقم الأوضاع، واستيلاء "داعش" على المزيد من الأراضي وتهديده لمناطق إنتاج النفط؛ مما يهدد المصالح الأميركية.

 وكان العراق طلب دعم واشنطن عبر العمليات الجوية بناءً على اتفاقات سابقة وعلى أساس أن خطر "داعش" خطر على الجميع، ولا بد من وقفة عربية ودولية ضد "الإرهاب"، وليس مع حكومة المالكي أو مع الشيعة، ومن يتابع مجريات الأمور ويستمع إلى وسائل الإعلام لما يحصل في العراق وسورية، لا يلمك إلا أن يتشاءم من المستقبل، فالسيناريوهات المرسومة بائسة، العراق في طريقه إلى الانهيار والتقسيم ومثله سورية، وحرائق العراق وسورية ستصيب دول الجوار أيضاً، وتداعياتها ستؤثر في دول المنطقة جميعاً.

 والمدهش أنه يتم حالياً، عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الإلكترونية، تداول "خريطة تقسيم العراق" الجديدة كما جاءت على غلاف مجلة "تايم" المقربة من الإدارة الأميركية، في عددها 30/6، وقد عنونت غلافها بـ"نهاية العراق" مع تقرير لمحررها "ميشيل كوالي"، وتظهر خريطة التقسيم الجديدة 3 دويلات: كردستان في الشمال، دولة سنية تمتد من الجنوب فالغرب إلى الشمال، وبغداد من ضمن الدولة السنية، إضافة إلى جزء من الكويت والسعودية، ودولة شيعية من الجنوب.

 كما نشرت "الحياة" 25/6 نقلاً عن "لوفيغارو" الفرنسية نفس الخريطة مع مقال بعنوان "تداعي الحدود في الشرق الأوسط" لشاس فريمان، سفير أميركي سابق وخبير في شؤون الشرق الأوسط، يؤكد فيه: أن ما يدور اليوم يشكل الفصل الأخير من فصول النزاعات الطائفية التي أشعل فتيلها الاجتياح الأميركي للعراق، وامتدت إلى سورية، لتساهم سياسات عربية وأميركية وفرنسية في تفاقم كارثة ولدت من رحمها "خلافة" سنية قد تمتد إلى أجزاء من سورية ولبنان والعراق، ويؤكد الكاتب: أن الأميركيين لن يتدخلوا ولن يرسلوا قوات برية إلى "حرب أهلية عراقية" هي جزء من "الحرب الأهلية السورية"، كما يؤكد: أن وحدة العراق لم تعد قائمة، وأن الشرق الأوسط الجديد، يطوي اليوم، شرق أوسط "سايكس-بيكو"، كما يرى أن ما يحصل اليوم، هو إحدى نتائج ثورات الربيع العربي التي أسقطت بن علي ومبارك.

 إذاً كل السيناريوهات الغربية تتوقع الأسوأ لمستقبل العراق والمنطقة، وتبدو عاجزة عن الإسهام في حل، كما أن هناك من الكتّاب العرب من يرى هذا السيناريو الأسود (مقال صالح القلاب: لنعترف وبألم وعلى رؤوس الأشهاد: العراق انتهى إلى التقسيم).

دعوني، أخالف هذه السيناريوهات المرعبة، لأقول إن وحدة العراق ستبقى وتستمر، مهما بدت ظواهر الأمور بخلافها، ومهما كانت إرهاصات التقسيم الطائفي منذرة، وذلك للأسباب الآتية:

أولاً: ليس من مصلحة الشيعة أو السنّة أو الأكراد، الانفصال في دويلة مستقلة، ولن يقبل أي مكون تاريخي من مكونات الدولة الوطنية العراقية التقسيم، مهما كانت مظالم السياسات القائمة المتجهة لتهميش طائفة على حساب طائفة أخرى، وقد مر العراق تاريخياً بمظالم أكبر وأعظم ولم يتقسم، وهذا يدفعنا إلى أن نتفاءل بوحدة العراق بإذن الله تعالى مستقبلاً.

ثانياً: لن تقبل الدول العربية وكل دول المنطقة بما فيها تركيا وإيران، بإقامة دويلات طائفية على حدودها، لأن ذلك يخل بتوازن القوى في النظام الإقليمي القائم.

ثالثاً: حتى القوى الكبرى وعلى رأسها أميركا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، من المستبعد أن توافق على إعادة رسم الحدود الجغرافية التاريخية والمتوارثة والمستقرة، من جديد، لأن تكلفتها باهظة (حروب ودماء).

رابعاً: سينتهي أمر "داعش" وكل الجماعات المسلحة التي تهدد أمن "الدولة الوطنية" واستقرارها مثلما انتهى أمر "الخوارج" القدامى الذين حاربوا المجتمع الصحابي والدولة الأموية في العراق، وكما انتهت ثورات الزنج في البصرة على الدولة العباسية وقد استمرت 20 عاماً.

خامساً: الانفصال لن يحل المشكل الطائفي، بل يزيد الوضع سوءاً، فالطائفية نتيجة ومحصلة لسياسات غير عادلة لا تعتمد مفهوم "المواطنة" المتساوية، والحل لا يكون بالانفصال والتقسيم بل في تفعيل مفهوم المواطنة وكسب تآلف كل مكونات المجتمع.

 * كاتب قطري