رغم أن تلك الفوائض مثلت فرصة تاريخية للكويت للقيام بإصلاحات تشمل ملفات اقتصادية مهمة، بعد سنوات من العجز في الميزانية كانت السمة البارزة لفترة التسعينيات، فإن الفرصة لم تستغل جيدا.

Ad

في نهاية يوليو 2003، أعلن مجلس الوزراء إطلاق مشروع «الكويت مركز مالي وتجاري»، وهو المشروع الذي كان من المفترض أن يكون بوابة لإصلاح الاقتصاد وأنظمة الإدارة ومعالجة الخلل في الميزانية، وغيرها من الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الكويتي، لاسيما في ما يتعلق بسوق العمل من جهة ضعف قدرة القطاع الخاص على استيعاب العمالة الوطنية، وتركز الإيرادات النفطية بنسبة عالية من إجمالي الإيرادات بشكل مخيف وصل إلى 93.5%.

وكان مشروع الكويت مركزا ماليا وتجاريا يستحق أن يطلق عليه «مشروع دولة»، لدرجة أنه حصل على دعم حكومي كامل، وتأييد برلماني كبير، فضلاً عن ترحيب عريض من القطاع الخاص، وبات مصطلح المركز المالي والتجاري جزءاً من خطاب الدولة، وأقيمت من أجله المؤتمرات، وصدرت التقارير والدراسات وتشكلت اللجان، وبات المشروع الأول الذي ترتبط فيه كل مشاريع الدولة الأخرى.

إلا أن واقع الحال بعد 11 سنة من طرح الفكرة - لا التطبيق - ليس أفضل من مرحلة ما قبل التطبيق، فمثلا نجد أن بورصات دبي وأبوظبي وقطر سبقتنا في الترقية إلى مستوى الأسواق الناشئة، حسب تصنيف مورغان ستانلي (MSCI)، ما سيتيح لها استقطاب المزيد من الأموال الأجنبية وإضفاء تقاليد مهنية احترافية أكثر على التعاملات، بما يتوافق مع مستوى هذه الأسواق وتقاليدها المهنية، في حين لايزال سوق الكويت للأوراق المالية في مؤشر الأسواق - دون الناشئة - في وقت تشهد البورصة ومعها هيئة أسواق المال محاولات سياسية متكررة لتخريب قانونها، والعبث بقواعدها وتعاملاتها، وفقاً لمصالح متنفذين أو انتقاماً من تطبيق القانون.

مؤشرات القياس

بعد 11 عاماً من التفكير في تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري تخبرنا مؤشرات القياس - التي تعتمدها الدولة - أن الأداء يتجه نحو الأسوأ، فالكويت تحتل الترتيب 82 عالميا في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال، والترتيب الـ60 عالميا في مؤشر البنية التحتية، والـ63 عالميا في مؤشر تطور الحكومة الإلكترونية، والـ98 عالميا في مؤشر كفاءة سوق العمل، إضافة إلى التراجع في مؤشرات التعليم، الذي تعتبر الكويت الأكثر إنفاقا عليه عالميا، ومقارنة بالنتاج المحلي الإجمالي نجد الترتيب الحالي هو 104 عالميا، إلى جانب الترتيب الـ90 عالميا في مؤشر عدم المحاباة في اتخاذ القرارات الحكومية.

هذه المؤشرات تبين مدى التراجع الذي شمل العديد من القطاعات خلال سنوات «الحديث» عن تحويل الكويت إلى مركز تجاري ومالي، خصوصا أن مثل هذه المؤشرات من المفترض أن تدعم مستوى تنافسية الاقتصاد لاستقطاب الأموال الأجنبية، وإقامة المشاريع التي توفر إيرادات استثمارية للدولة، إلى جانب توفير فرص العمل وجعل الكويت محط أنظار المستثمرين والمؤسسات الدولية المالية.

تزامن مشروع تحويل الكويت إلى مركز تجاري ومالي مع فوائض تحققها الدولة على مدى 15 عاما متتالية، وصلت قيمتها المتراكمة إلى ما يناهز 340 مليار دولار، ورغم أن تلك الفوائض مثلت فرصة تاريخية للكويت للقيام بإصلاحات تشمل ملفات اقتصادية مهمة بعد سنوات من العجز في الميزانية، كانت السمة البارزة لفترة التسعينيات، فإن الفرصة لم تستغل جيدا.

ارتفاع الفوائض

فلم تستغل الفوائض في معالجة الاختلالات الحقيقية للاقتصاد الكويتي، لا من حيث إصلاح سوق العمل عبر توفير مناخات وبيئات استثمارية مختلفة عن العمل الحكومي، ولا من ناحية تقليل هيمنة الدولة على الاقتصاد، ولا في طرح مشاريع وفرص ترفع نسبة الإيرادات غير النفطية مقابل نظيراتها النفطية، فكانت الكويت كلما سجلت فائضا قياسيا في إيراداتها سجلت معه تراجعا في تنافسية اقتصادها، ومدى توفر بيئة جيدة للاستثمار فيها، بل امتد الأمر إلى تراجع لا يناسب النمو في الفوائض على مستوى الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والإسكان، ما يشير بشكل جلي إلى كيفية توفر الأموال، رغم ضخامتها، في يد إدارة لا تحسن التعامل معها.

ولا يتعلق الأمر فقط بالفوائض المالية، بل بودائع القطاع الخاص التي لم تجد البيئة الاستثمارية المناسبة لتوظيف أموالها، فمنذ بداية الأزمة المالية العالمية نمت الودائع في الكويت - القطاع الخاص - بنسبة 95.7%، مرتفعة من 16.5 إلى 32.3 مليار دينار حاليا، ما أعطى مؤشرا عن قناعات المستثمرين، أفرادا وشركات، بواقع السوق المحلي، خصوصا في ظل ضعف العائد على الودائع، ما يعني أن المستثمرين لم يجدوا أي فرصة مجدية لاستثمار أموالهم، خصوصا في غياب إجراءات الحكومة للتحفيز وإنعاش الاقتصاد.

نمو الودائع

ويتوازى نمو ودائع القطاع الخاص مع نمو الفوائض في تكوين مبلغ ضخم كان على الإدارة الحكومية أن توظفه في مشاريع بنى تحتية وخدماتية حقيقية تدر عائدات للدولة، بقدر ما توفر خدمات للسكان من مواطنين ووافدين، فضلاً عن مشاركة القطاع الخاص في تمويل مثل هذه المشاريع.

كذلك تزامن مشروع تحويل الكويت إلى مركز تجاري ومالي في عام 2003 مع خطة التنمية في عام 2009، وهي الخطة التي تبين بعد 4 سنوات من العمل بها - حسب تصريحات حكومية - عدم صوابها وعدم ملاءمتها للواقع الاقتصادي الكويتي، وأنها أصلا لم تكن مبنية على قواعد صحيحة! وهو أمر يدل على أن الإدارة التي تدير أهم مشاريع الدولة لم تستوعب فشل الخطة التي تنفذها منذ 2009 إلا في نهاية 2013، وهنا يجب أن يكون التغيير شاملا للخطة وفلسفتها وإدارتها والقائمين عليها جميعا، فليس من المقبول إضاعة 5 سنوات من التوقعات الإيجابية بلا محاسبة لأي طرف سياسي أو فني.

ما يدور في الكويت من حديث عن المركز المالي والتجاري، والحديث الآخر عن خطة التنمية وغيرهما من مشاريع إصلاح وتطوير، لا يعدو أن يكون شراء للوقت وبيعا للوهم على الناس، في وقت نسير سريعا في اتجاه ما حذر منه صندوق النقد الدولي ووزير المالية بشأن دخول دائرة العجز المالي بين 2017 و2020، وسط إعداد لموازنات سنوية لا علاقة لها بالتحذيرات التي تتبناها الحكومة، وكأن لدينا حكومتين الأولى تتحدث عن الإصلاح والثانية تطبق سوء الإدارة.