كم كانت هذه المرأة، التي تجلس الآن لتستريح في البيت، بعد سبعين عاماً من العمل والخبرات والتمرد، قوية ومحاربة ومنحازة إلى التمثيل، كم كانت صارمة في الدفاع عن موهبتها، لا عقبات تقف أمام هذا الصمود...  

Ad

بمناسبة الصمود، هل الحب قادر على الصمود في وجه كل هذا الإصرار على العمل، في ظل المتغيرات التي تقتحم الحياة الزوجية، أم تتكشف الصورة بوضوح عندما يوضع الحب نفسه في بوتقة الاختبار...؟

كيف نكتب بأيدينا نهاية للمشاعر التي دافعنا عنها كثيراً وحاربنا لأجلها مراراً، كمن يغلق الباب ويرحل في صمت...؟

المؤكد أن امرأة القوس، ووفقاً لمواصفات برجها، تكره الرجل الضعيف سليب الإرادة، لذا غضبت مديحة من أمين عندما بدأ يستسلم لنشاطات أخرى أبعدته عنها وعن الفن الذي كان سبباً في ارتباطهما، أزعجها انشغاله بمراهنات الخيول دونما البحث عن إبداعات جديدة تدفعه إلى المنافسة على صدارة المشهد، سواء كمطرب أو كممثل، كما وعدها واقتسم معها الحلم، أحزنها أن تتحول من  {كل} إلى مجرد  {تفصيلة} في الحياة لا ينتبه إلى وجودها وربما لا تشغله أصلا...

هل أخطأت في اختيارها لمن يقاسمها الحياة والأحلام؟

المؤكد أن مديحة اجتهدت في احتواء نقاط الخلاف بينها وبين محمد أمين، كما تؤكد، ومرات عدة، كانت حريصة على تقريب وجهات النظر بينهما والبوح بكل ما يزعجها ويؤرقها.

مديحة: مش ممكن يا محمد كل يوم سهر.

أمين: ما أنا قلت لك تعالي معايا وأنت رفضت.

مديحة: رفضت عشان عندي شغل الصبح، كمان محدش بيسهر كل يوم كده.

أمين: خلاص أوعدك أراعي الحكاية دي.

مديحة بحسم: أرجوك يا محمد تقلل من سهرك بره، يعني كفاية يوم أو اتنين بالكتير.

تكررت الوعود والشكوى أيضاً، فيما سفينة الزواج بدأت في الإبحار بهما نحو جزر منعزلة، حيث كل طرف يعيش منفرداً، في صيغة أقرب إلى  {السكتة الزوجية} ومجدداً لم تستسلم.

مديحة: تاني يا محمد السهر؟

أمين: أرجوك يا مديحة مش كل يوم نتخانق، أنا تعبت وزهقت.

بحدة: وأنا كمان زهقت وتعبت أكتر منك، كفاية أني شايلة شغل الشركة كله على دماغي وأنت مش بتساعدني ولا حتى مهتم بيها.

هدأت من نبرة صوتها قبل أن تتابع: أرجوك يا محمد أنا مراتك وشريكتك ولي حقوق عليك.

 مشاحنات يومية

في البداية لم تيأس مديحة من بذل مزيد من الجهد لاستعادة زوجها، ربما خشيت أن تلومها أسرتها على سوء اختيارها، لذا راحت ترمم حياتها بكل طاقتها، تتجاوز حيناً، وتغض البصر أحياناً كثيرة، قبل أن تنفجر اعتراضاً على سلوكيات أو ممارسات ترفضها، وفي الوقت نفسه، اجتهدت ألا يتأثر مشوارها الفني بأي منحنيات تعوق وصولها إلى هدفها، فشاركت في أفلام:  {ابن الحداد} من إخراج يوسف وهبي،  {قبلة في لبنان} لأحمد بدرخان،  {يسقط الحب} لإبراهيم لاما الذي أخرج مع أخيه بدر لاما أول فيلم عربي بعنوان  {قبلة في الصحراء} عام 1927، وقد أنتجت شركتهما نحو 62 فيلماً في الفترة ما بين 1926 و1951.

ابراهيم وبدر لاما من أصل فلسطيني، هاجرت عائلتهما من فلسطين إلى تشيلي في أميركا الجنوبية، ولكنهما قررا البقاء في الإسكندرية بسبب مرض إبراهيم، وكانت في حوزتهما معدات وأجهزة سينمائية هي الأولى من نوعها في العالم العربي، ما سهل عملهما في صناعة السينما التي انطلقت من الإسكندرية.

عادت مديحة من تصوير فيلمها  {شهر العسل} للمخرج أحمد بدرخان الذي اقتسمت بطولته مع فريد الأطرش، وانتظرت زوجها حتى الساعات الأولى من الصباح، رغم تعبها وحاجتها إلى الراحة، رغبة منها في البحث عن حل ناجز للمشاكل التي بدأت تزحف على حياتها.

مديحة: محمد مينفعش كل يوم تيجي وش الصبح دي مش عيشة.

أمين: أنا راجع مبسوط مش عاوز أتخانق لو سمحتي.

مديحة: يعني إيه، الوضع ده مش طبيعي أنا مراتك ومعرفش عنك حاجة من 4 أيام، أنا باخرج للتصوير أنت نايم وبارجع بالليل مش بتكون موجود وما اعرفش هترجع إمتى.

أمين: طيب نتكلم بكرة يا مديحة علشان أنا راجع تعبان.

أنهت مديحة حديثها مع زوجها واستيقظت مبكراً لتتابع تصوير دورها في الفيلم، وعندما عادت في المساء لم تجد زوجها في المنزل كالمعتاد، حينها قررت، للمرة الأولى أن تطلب الطلاق وتنفصل عنه، مهما كانت عواقب هذا القرار وبالأخص اجتماعياً، فالمجتمع ينظر إلى المطلقة بامتهان وعدم احترام، ويحمّلها دوماً مسؤولية فشل الزواج، باختصار هي {رجس من عمل الشيطان}، يضاف إلى ذلك كونها فنانة، ما يضعها في دائرة الاتهامات. إلا أنها، رغم ذلك كله، عقدت العزم وقررت طلب الطلاق، والتخطيط لحياتها مستقبلا منفردة، فاستقرت على هذا القرار، ونامت ليلتها وهي أكثر هدوءاً.

في صباح اليوم التالي انتظرته حتى استيقظ قرابة العصر.

أمين مندهشا: إيه ده يا مديحة أنت مرحتيش الأستوديو النهاردة، خلصت تصوير الفيلم ولا إيه؟

مديحة: لا مخلصناش أنا اعتذرت عن التصوير النهاردة علشان عاوزة أتكلم معاك شوية.

في لامبالاة: أوعي يكون نفس موضوع كل يوم، أنا فعلا زهقت.

بحسم وهدوء قالت: أنا عاوزة اتطلق يا محمد.

بانزعاج قال: إيه؟... إزاي؟

مديحة: العيشة دي محدش يتحملها أبداً، وأنا تعبت من المحاولات معاك أنت مكنتش كده لما حبيتك وأتجوزتك، أنت متعرفش عني حاجة، ده أنا أتحداك تعرف أنا بشتغل في فيلم اسمه إيه، حتى الشركة اللي المفروض أنها حلمنا وعملناها سوا أنت متعرفش عنها أي حاجة، مش فاضي غير للسهر ومراهنات الخيل واللعب بالورق على الترابيزة وخسارة الفلوس هنا وهناك.

التقطت أنفاسها قبل أن تتابع هجومها: يعني أنا أتعب واشتغل وأكبر الشركة وحضرتك تضيع الفلوس في الخيل والقمار.

أجهشت مديحة في البكاء بحرقة لم يشهدها أمين من قبل، حينها شعر بعذاب الضمير، وأنه بالفعل أساء إليها كثيراً.

أمين: حاضر يا مديحة أنا هتغير علشانك وهرجع تاني أروح الشركة واشتغل، أرجوك إهدي... أنا أسف وصدقيني مش حأعمل أي حاجة تضايقك تاني، حأركز في شغلي وفني، حأدور على أغانٍ جديدة، حأعمل لك كل اللي أنت عاوزاه، بس أرجوك انسي موضوع الطلاق ده، أنا مقدرش أبعد عنك أبداً.

من أول مرة

بصعوبة هدأ أمين مديحة، وإثباتاً للتغير طلب منها أن ترتدي ملابسها ليخرجا سوياً لتناول طعام الغذاء في أفخر مطاعم القاهرة، على أن ترافقه في المساء إلى بيت أحمد سالم تلبية لدعوة وجهها إليه.

لم تعرف مديحة وهي تدخل للمرة الأولى بيت أحمد سالم وزوجته حينذاك تحية كاريوكا، أن القدر سيجمعها بسالم بعد بضعة أشهر ليس كبطلة لأحد أفلامه (مخرج ومنتج ومؤلف وبطل أيضاً) فحسب، لكن بصفتها آخر زوجاته أيضاً.

كان أحمد سالم أشهر  {دونجوان} عرفته السينما المصرية، اكتشف الفنانة كاميليا وقد ربطت الإشاعات بينهما، وتزوج خيرية البكري، وأمينة البارودي، وأسمهان، وكانت له ابنة واحدة اسمها نهاد. درس سالم الهندسة والطيران في جامعة كمبريدج في لندن، وعاد إلى مصر وهو يقود طائرته الخاصة (كان من أثرياء محافظة الشرقية التي ولد فيها عام 1909)، وقد عمل في البداية مهندساً في إحدى الشركات الكبرى قبل أن ينتقل للعمل في الإذاعة المصرية عام 1932، وكان أول من نطق بجملة  {هنا القاهرة} الشهيرة التي نسمعها حتى اليوم، وفي العام 1935 عين مديراً عاماً لأستوديو مصر الذي أنشأه طلعت حرب، وفي عام 1938 أنتج عبر الأستوديو فيلم  {لاشين}، وهو أحد أشهر الأفلام المصرية التي منعت من العرض وأثار ضجة كبرى بعد اعتراض القصر الملكي، إذ تدور أحداثه حول حركة شعبية ثورية ضد الحاكم المستبد تنتهي بالقضاء على هذا الحاكم الغارق في شهواته، وقد طلبوا من أحمد سالم تعديل السيناريو والحوار على أن تكون النهاية لصالح الحاكم الذي لم يكن يعلم ما يدور ضد الرعية، لكنه رفض وقدم استقالته من كل هذه المناصب، لتمسكه برأيه، رافضا تعديل السيناريو أو نهاية الفيلم.

أسس سالم شركة إنتاج قدم من خلالها 10 أفلام كان بطلها ومخرجها ومؤلف معظمها، ومن أبرزها {رجل المستقبل}،  {الماضي المجهول}، {دنيا} و{أجنحة الصحراء} آخر أفلامه، واستعاد من خلاله حبه للطيران، إذ دارت قصته حول طيار يحب مهنته، مفضلا إياها على كل مغريات الحياة بينما يغرق صديقه في ملذات الحياة، ما يدفع الطيار في نهاية المطاف لأن يهجر الحياة بما فيها حبيبته (راقية إبراهيم) ليعيش في الهواء مع طائرته في صحراء الحياة، وقد هجر سالم السينما بعد هذا الفيلم وتفرغ لأعماله التجارية وفي مقدمها تجارة السلاح.

الرجل الغامض

 

كان سالم وتحية اعتادا استضافة أصدقائهما من نجوم ذلك العصر في منزلهما، وكان {لعب الورق} بحجة قتل الملل، القاسم المشترك بين معظم الحضور في مقدمهم محمد أمين، وفي تلك الليلة التي رافقته فيها مديحة إلى بيت سالم، صدمتها ردة فعل {دونجوان السينما} واللامبالاة بعد خسارته مبلغ 90 جنيها دفعة واحدة، وهو رقم يعدّ ضخماً بمقاييس ذلك العصر، إذ كان بمثابة ربع الأجر الذي تحصل عليه مديحة في الفيلم الواحد، ما دفعها إلى الحديث معه بعد خسارته قائلة:

مديحة بفضول: أنت مش زعلان يا أحمد؟

سالم: وازعل ليه؟

مديحة باندهاش أكبر: علشان الفلوس الكتير اللي أنت خسرتها.

سالم ضاحكاً: يا ستي بكرة تتعوض، أدينا بنتسلى وبنضحك والنهاردة خسرت بكرة اكسب.

مديحة بانزعاج ممزوج بالدهشة: لكن أنت خسرت كثير قوي.

سالم بثقة: وفي أيام تانية بكسب فيها مبالغ كبيرة ، وهو اللعب كده مكسب وخسارة.

أدركت مديحة أنها أمام شخصية مختلفة عن كل الرجال الذين عرفتهم في حياتها، سواء كانوا أهلاً أو أصدقاء أو زملاء أو... أو... و من دون أن تدري وجدت نفسها تقارن بين رد فعل كل من زوجها وسالم، فالأول رغم أنه خسر مبلغا مالياً لا يعادل ربع الخسارة التي تكبدها سالم، فإن زوجها غضب، مع أنه حاول إضفاء جو من المرح وتصدير ابتسامته للحضور، بينما سالم كان يضحك من قلبه وكأنه خرج فائزاً من اللعب.

عرفت مديحة في تلك الليلة الكثير عن سالم، سواء ما اكتشفته بنفسها، أو عبر ما تطوع به الحضور، من أنه لا يشغل باله بالخسارة المادية كونه من الأثرياء كما برر البعض.

تأكدت مديحة بما لا يدع مجالا للشك أنها أمام شخصية مختلفة، تعجبت من توصيفه بـ}الدونجوان} وما تتناقله الألسنة حول  {غرامياته} إلى حد منافسته للملك فاروق على كثيرات، ربما أبرزهن كاميليا التي اكتشفها وقدمها سينمائياً، فربطت بينهما الإشاعات كما يؤكد البعض، فيما يرى البعض الآخر أنه عبقري، كونه حقق نجاحاً في أكثر من مجال، بدءاً من الهندسة مروراً بالطيران، انتهاء بإبداعه السينمائي الذي رفع راياته فيه على أكثر من مجال أيضاً.

فيما فريق ثالث لا يراه أكثر من  {محتال همجي} ودللوا على ذلك بقصص وحكايات، لعل أبرزها حكايته مع زوجته أسمهان، إذ عادت متأخرة في إحدى الليالي وتطور بينهما الشجار إلى حد تهديده لها بالسلاح، ما دفعها إلى أن تستنجد بالشرطة، فحدث شجار بين سالم وبين الضابط خرجت على أثره رصاصة أصابته، ورغم شفائه منها فإن أثارها ظلت تؤلمه حتى خضع لجراحة بعدها بسنوات وكانت سبباً في وفاته.

طوال السهرة كانت مديحة تشعر بعدم الراحة وسط الحضور، رغم أن معظمهم من نجوم الفن والمجتمع، بل بعضهم زملاء عمل، مع أنها لم تجتمع مع أكثرهم  في أعمال فنية، وما إن بدأ لعب الورق وانطلقت جلسات  {النميمة} التي طاولت حتى  {أصحاب البيت} ازداد إحساسها بالضيق وعدم الرضا، ففضلت الخروج إلى شرفة المنزل.

لم تلحظ مديحة أن عيني سالم كانتا تلاحقاها وتتبعا خطواتها، وما هي إلا لحظات حتى تبعها قائلا:

سالم: مالك يا مديحة، أنا ملاحظ أنك متضايقة، يا ترى في حاجة حصلت ضايقتك؟

ابتسمت مديحة: لا أبدا بالعكس الحفلة ظريفة بس أنا اتخنقت من الدخان ففضلت اشم الهوا في  {الفرندة}.

كان يتفحصها بنظراته، وفي ما يبدو لم تقنعه كلماتها فقال: أكيد مفيش حاجة حصلت ضايقتك؟

بصراحتها المعهودة انطلقت مديحة تقول: بصراحة حسيت أني مش مرتاحة في الحفلة، بس محبتش أزعج حد ففضلت أقعد لوحدي هنا.

تابعت قائلة: أنا بس جيت علشان محمد كان مصر أبقى معاه، هو كل يوم بيسهر لوحده وبكرة الجمعة عندي إجازة من التصوير فوافقت أجي.

سالم: بيتك ومطرحك وأنا... أقصد إحنا سعداء بوجودك وشرفتينا بجد... حاولي تتبسطي وتضحكي.

أجابته بابتسامة اجتهدت أن تكسو وجهها، غير أنها فوجئت به يقترب منها قائلا: دي مش ابتسامتك اللي أعرفها، فين ابتسامتك الحقيقية.

تعجبت مديحة لما قاله سالم، وأسقط في يدها فقالت: فعلا أنا مبعرفش أخبي مشاعري ولا أحساسي، أنا بطبعي مش بحب النوعية دي من السهرات، ولولا محمد أصر أني أجي معاه مكنتش جيت، وفعلا نفسي أمشي علشان كمان عندي شغل الصبح.

سالم: هو أنت حياتك كلها شغل.

مديحة بحسم: لا طبعاً... بس بجد مش مرتاحة للجو.

سالم: طيب يا ستي أنا أصلا كنت عاوزك في شغل وكويس أنك جيتي مع محمد النهارده، عندي فيلم جديد وعاوزك معايا فيه.

مديحة: ياه علشان بقولك مش مبسوطة تقوم تجاملني وترشحني                                                                                                                                          لفيلم معاك.

سالم: لا والله بجد، أنا شايفك أنك البطلة أصلا، والفيلم إنتاجي وتأليفي وإخراجي واسمه  {رجل المستقبل}، وبكرة إن شاء الله هبعتلك السيناريو علشان عاوز أصوره على طول.

مديحة: كفاية أني هشتغل معاك، أنت نجم كبير وأفلامك مكسرة الدنيا يا أحمد وأنا مستنية السيناريو.

سالم: طيب وهتاخدي كام بقى، ما أنت بقيت منتجة ومحدش بقى عارف أجرك وصل كام؟

بهدوء وحسم قالت: يا أحمد كفاية ذوقك، الأجر اللي أنت عامله للبطلة أنا موافقة عليه ومش هتكلم معاك في الموضوع ده تاني.

على الجانب الآخر، كان أمين يلعب الورق، في البداية لم ينتبه                                                                لأن مديحة انسحبت من الجلسة بهدوء، بحث عنها بعينيه ولكنه لم يجدها، فقام يبحث عنها، وما هي إلا ثوان حتى أخبره البعض أنها  في صحبة سالم في شرفة المنزل، وحين خرج أمين مسرعاً إلى الشرفة وجدهما معاً.