أوباما الواقعي
في خطابه الذي ألقاه على الطلاب العسكريين الخريجين في الأكاديمية العسكرية الأميركية الشهر الماضي، قال الرئيس باراك أوباما إن بعض أكثر الأخطاء التي ارتكبتها أميركا تكلفة منذ الحرب العالمية الثانية لم تكن ناجمة عن ضبط النفس، بل كانت راجعة إلى "استعدادها للاندفاع إلى مغامرات عسكرية من دون التفكير في العواقب"، ورغم أن أوباما قد يكون محقاً، فإن هذا الخطاب لم ينجح إلا قليلاً في تهدئة مشاعر المنتقدين الذين اتهموه بالسلبية والضعف، خصوصاً في ما يتعلق بسورية وأوكرانيا.ومن الممكن أن نُرجِع هذا الإحباط جزئياً إلى التوقعات العالية إلى حد شديد المبالغة والتي أطلقها أوباما في خطاباته المبكرة، حيث ألهم الناخبين بوعود عن التحول الجهازي الشامل، وخلافاً لأغلب المرشحين حافظ أوباما على هذا الخطاب التحويلي حتى بعد أن أمَّن له الفوز في حملة عام 2008، والواقع أن سلسلة من الخطابات في العام الأول من رئاسته رفعت التوقعات إلى مستويات أعلى، من خلال إنشاء هدف إخلاء العالم من الأسلحة النووية، والوعد بتجديد النهج الذي تتعامل به أميركا مع الشرق الأوسط، والتعهد "بتحويل مسار التاريخ في اتجاه العدالة".
كثيراً ما يُقال إن الساسة الديمقراطيين يديرون حملاتهم شِعراً ويحكمون نثرا، ولكن ليس هناك من الأسباب ما قد يجعلنا نعتقد أن أوباما كان مخادعاً بشأن أهدافه، ذلك أن رؤيته ببساطة لم تتمكن من الصمود في وجه العالم العصي المتمرد العسير الذي وجد نفسه في مواجهته؛ وبالتالي فقد اضطر إلى تعديل رؤيته، فبعد عام واحد في المنصب، تحول الرجل الذي وعد بزعامة تحويلية إلى زعيم "معاملات"، واقعي بدرجة مفرطة، ورغم ما يقوله منتقدوه فإن هذا كان تطوراً إيجابياً في حد ذاته.ففي حين تعهد أوباما باستخدام القوة عندما تتعرض مصالح أميركا الحيوية للتهديد ورغم رفضه كل التوقعات المتشائمة حول الانحدار الوطني، فإنه على النقيض من سلفه جورج دبليو بوش اعتمد بشكل أكبر على الدبلوماسية وليس القوة، وهو ما جعل منتقديه يتهمونه بالفشل في تعزيز القيم الأميركية والتقهقر إلى الانعزالية.ولكن ضبط النفس ليس انعزالية، فلم يتهم أحد الرئيس دوايت آيزنهاور بالانعزالية عندما تَقَبَّل وصول الحرب الكورية إلى طريق مسدود، أو عندما رفض التدخل في حصار قاعدة ديان بيان فو الفرنسية في فيتنام، أو عندما قاوم التوصيات من ضباط عسكريين كبار بشأن الجزر القريبة من تايوان، أو عندما راقب الجيش الأحمر وهو يغزو المجر ولم يحرك ساكنا، أو عندما رفض دعم الحلفاء في أزمة قناة السويس. حتى أولئك الذين يذمون استجابة أوباما المحسوبة لضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لشبه جزيرة القرم مؤخرا، لم يعتبروا بوش انعزالياً رغم استجابته الضعيفة لغزو بوتين لجورجيا في عام 2008.الواقع أن استجابة أوباما للعدوان الروسي على أوكرانيا يعكس رؤيته البعيدة المدى، فرغم فوز بوتين بحيازة شبه جزيرة القرم، فإنه خسر القدرة على الوصول إلى بعض الموارد التي يحتاج إليها لتحقيق استعادة مجد روسيا السابق كقوة عظمى، وكان سلوكه سبباً في إعادة تنشيط حلف شمال الأطلسي. إن صناعة السياسة الخارجية الفعّالة يتطلب فهماً واضحا، ليس فقط للأنظمة الدولية والعابرة للحدود الوطنية، بل أيضاً لتعقيدات السياسة المحلية في العديد من البلدان، وهي تتطلب أيضاً الاعتراف بضآلة ما هو معروف عن "بناء الدول"، وخاصة بعد الثورات، وهي العملية التي ينبغي لنا أن ننظر إليها في إطار عقود من الزمان وليس بضع سنوات. ففي عام 1789، كان القليل من المراقبين في باريس يتكهنون بأن يتولى رجل من كورسيكا قيادة القوات الفرنسية إلى ضفاف النيل في غضون عشر سنوات، ولم تسفر التدخلات الأجنبية في الثورة الفرنسية إلا عن تأجيج نيران النزعة القومية.في مثل هذا السياق المعقد الزاخر بالشكوك، تشكل الحكمة أهمية بالغة، والتحركات الجريئة القائمة على رؤى مهيبة متكلفة قد تكون بالغة الخطورة، وهذا هو ما ينساه أو يتناساه غالباً الداعون إلى تبني نهج أكثر قوة في التعامل مع ثورات اليوم في الشرق الأوسط. بطبيعة الحال، من المنطقي أن يسعى قادة الولايات المتحدة إلى دفع الأحداث على الهوامش في محاولة لتعزيز قيم الديمقراطية في المدى البعيد، ولكن محاولة توجيه الثورات التي لا يفهمونها بشكل كامل خطأ جسيم، وقد يؤدي إلى عواقب سلبية خطيرة محتملة تلحق الأذى بكل الأطراف المعنية.في واقع الأمر، لم يكن رؤساء الولايات المتحدة الذين انتهجوا سياسة خارجية تحويلية في القرن العشرين أكثر فعالية أو أكثر أخلاقية، فقد أسهم رهان الرئيس وودرو ويلسون على معاهدة فرساي في عام 1919 في الانزلاق إلى حالة مأساوية من الانعزالية في ثلاثينيات القرن العشرين، كما انتهت رهانات جون ف. كينيدي وليندون جونسون في فيتنام إلى عواقب مدمرة، ولا تزال بعض هذه العواقب محسوسة حتى يومنا هذا.وفي وقت أقرب إلى الحاضر، حاول جورج دبليو بوش- الذي أعلن أنه لا يلعب "على نطاق صغير"- تحويل الشرق الأوسط بموجب "أجندة الحرية"، وبعد مرور أكثر من عقد من الزمان لا تزال الولايات المتحدة تناضل في محاولة الانسحاب من الصراعات التي أشعلها.وعلى النقيض من هذا فإن أخطاء السياسة الخارجية التي ارتكبها أوباما لم تفض إلا إلى تداعيات بسيطة، ومن المؤكد أن تحقيق نتائج متواضعة متراكمة أفضل من المجازفة بإفساد الأمر برمته بالفشل في تحقيق أهداف عظمى غير واقعية، ولا شك أن تحقيق انتصار مهيب أمر مثير، ولكن "النصر" في عالم السياسة الخارجية ليس بهذه البساطة والمباشرة، والمخاطر جسيمة.وقد أدرك الرئيس جورج بوش الأب هذه الحقيقة، والواقع أنه كان زعيم معاملات واقعي النزعة، وقد أعلن أنه لا يمارس "مسألة الرؤية" هذه، لكنه كمثل آيزنهاور، نجح في الإبحار بسفينة الولايات المتحدة عبر أزمات عديدة، وأشرف على واحدة من الفترات الأكثر نجاحاً في السياسة الخارجية الأميركية في نصف القرن الماضي. بطبيعة الحال، كانت بعض انتقادات خطاب أوباما في محلها، ولكن الكثير منها كان مجرد سياسة حزبية، ولكي نكون إيجابيين فإن المناقشة الدائرة حول سياسة أوباما الخارجية لابد أن تضع في الحسبان تاريخ الولايات المتحدة في القرن العشرين.في عالم السياسة الخارجية، كما هي الحال في عالم الطب، يتعين على الزعماء أن يحرصوا أولاً على "عدم إحداث المزيد من الضرر"، وأوباما يفهم هذا، ولا نملك الآن إلا أن نأمل ألا تكون الانتقادات الجاهلة الشرسة لسياسة أوباما الواقعية العملية سبباً في دفع خليفته إلى الارتداد إلى نهج تحويلي محفوف بالمخاطر.* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye ، أستاذ في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "هل انتهى القرن الأميركي؟"، ومؤخرا تولى الرئاسة المشتركة لمناقشات مجموعة أسبن الاستراتيجية لتنظيم الدولة الإسلامية والتطرف في الشرق الأوسط.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»