الوعي لا يتطوّر من فراغ
المشكلة لدينا ليست في طبيعة المكونات الاجتماعية للمجتمع ونوعيتها بل في طبيعة الأنظمة السياسية من حيث الفئات الاجتماعية التي تمثلها والمصالح التي تعبّر عنها، ناهيكم عن مدى احترامها للدستور وتطويرها لآليات تنظيم العمل السياسي والعام ونوعية القوانين التي تحكم الحياة العامة وتسهّل عملية تطويرها.
بعيداً من المماحكات السياسية، فإنه من الصعب أن تجد عاقلاً لا يعرف أننا نعيش منذ سنوات في دوامة أزمة سياسية خانقة وأن شعبية الحكم، التي تحدثت عنها المذكرة التفسيرية للدستورية، تتآكل تدريجياً، وأن نظامنا الديمقراطي تعرّض، ويتعرض، لهجمة شرسة وممنهجة تهدف إلى تشويهه وتخريبه من الداخل، ولولا وقوف الشعب بصلابة في وجهها لقضت على نظامنا الدستوري بالكامل.لذلك لا بد من الاعتراف بأن المعادلة السياسية الحالية لم تفشل في تطوير نظامنا الديمقراطي فحسب بل جعلته يتخلف، وهو الأمر الذي لا يمكن تجاوزه من دون البدء بإصلاح سياسي وديمقراطي جذري، فالأوهام النفسية وحالة الإنكار لا تعنيان عدم وجود الأزمة أو المشكلة ناهيكم عن حلها.
حالة التشويه التي تعرض لها ولا يزال نظامنا الديمقراطي الذي وضع أسسه الدستور هي التي على ما يبدو جعلت البعض يدّعي أن تبني النظام البرلماني الكامل كحل للأزمة السياسية، وتطوير لنظام الحكم الديمقراطي، سيُخُرج لنا مجاميع قبلية وطائفية هي التي ستدير الحكومة، وكأن وضعنا السياسي الحالي وضع مثالي يُخرج لنا ساسة محترفين يديرون الدولة وليس مجاميع فئوية وطائفية وعنصرية بجانب مجموعة قليلة تحتكر السلطة والثروة في آن.فالمشكلة ليست في طبيعة المكونات الاجتماعية للمجتمع ونوعيتها بل في طبيعة الأنظمة السياسية من حيث الفئات الاجتماعية التي تمثلها والمصالح التي تعبّر عنها، ناهيكم عن مدى احترامها للدستور وتطويرها لآليات تنظيم العمل السياسي والعام، ونوعية القوانين التي تحكم الحياة العامة وتسهّل عملية تطويرها. مجتمعات الدول الديمقراطية المتقدمة تتكون من أصول وطوائف ومذاهب وأديان ولغات ولهجات وأقليات إثنية وعرقية مختلفة وثقافات متعددة ومتنوعة، ولكن الأنظمة السياسية المتطورة هناك تقوم بوضع دساتير متطورة وتسن قوانين وتشريعات وترسم سياسات عامة ناجحة تؤدي إلى دمج المكونات الاجتماعية في مكون وطني واحد، بحيث يكون التنافس الانتخابي حول برامج وخطط مستقبلية لا علاقة لها بالأصول والأعراق والطوائف والأديان التي تلتزم الدولة باحترامها، فلا تسمح لأي معتوه أو سفيه بالتعدي عليها أو الاستهزاء بها.لو لم تتطور الدول المتقدمة اقتصادياً ولو لم تبن دساتير وأنظمة وآليات سياسية متطورة لبقيت متخلفة حتى الآن، فالواقع المادي هو الذي يخلق الوعى وليس العكس، فكما قال المفكّر الراحل د. فؤاد زكريا في إحدى المقابلات الصحافية:"العقول لا تتغّير من فراغ، فلا معنى لدعوة تغيير طرق التفكير عند الناس أولاً، ثم بعد ذلك تتغيّر الظروف والأوضاع لأن الدعوة بهذا الشكل دعوة معكوسة، فالعقول لا يعاد تشكيلها بقرار فوقي أو خطة طويلة المدى، العقول لا تبدأ التغير إلا بعد تغير الأوضاع من حولها". انتهى الاقتباس.لهذا فإن من ينافق السُلطة ويُزيّن لها الوضع الحالي فيُظهره على غير حقيقته هو الذي يضرها، فمن النفاق ما قتل.الوضع الحالي لا يمكن له أن يستمر نظراً لوجود تناقض بينه وبين متطلبات التطور وروح العصر... ومن الأفضل، في ظل الظروف السياسية الحالية المحلية والإقليمية والدولية المتغيرة، المبادرة بالإصلاح السياسي ضمن دستورنا الحالي الذي يوفر الأساس ونقطة الانطلاق لتطوير نظامنا الديمقراطي.