ربما، بل من المؤكد، أنَّ الذين أغضبهم مقالي يوم الجمعة الماضي في هذه الجريدة، لا يعرفون أنني، كما تعرضت الآن لحملتهم هذه، كنت قد تعرضت لحملة أعنف منها كثيراً؛ لأنني دافعت عن الثورة الإيرانية، ولأنني رافقت ياسر عرفات (أبوعمار) في أول زيارة له إلى طهران في فبراير عام 1979 بعد أربعة أيام من انتصار هذه الثورة، ولأنني كتبت مقالاً مطولاً في إحدى الصحف اللبنانية تحت عنوان: "هبَّت رياح الخميني"، ولأنني نقلت كلاماً رائعاً كان قاله السيد علي خامنئي، وكان يومها خطيب جامعة طهران، ولأنني أشدْت بأفكار السيد محمود الطالقاني الذي ترددت على مجلسه الذي كان عامراً أكثر من عشرين مرة، ولأنني أفصحت كتابة عن إعجابي بالسيد حسين منتظري الذي زرته مراراً في منزله في "قم"، والذي كانت تربطني علاقة صداقة بنجله محمد منتظري خلال إقامته الطويلة في بيروت، والذي كنا نطلق عليه لقب "رينغو".

Ad

وقبل ذلك أي قبل انتصار الثورة الإيرانية كنت تعرضت لحملة أشد عنفاً من حملة بعض الأشقاء الكويتيين، الذين كان عليهم أن يترووا كثيراً قبل أنْ يذهبوا بعيداً في فهم مقال يوم الجمعة الماضي، لأنني تجرأت وانتقدت كتابة وفي صحف لبنانية طليعية ومقروءة استقبال صدام حسين لزوجة شاه إيران السابق فرح ديبا، ولأنه بعد ذلك وعلى الفور بادر إلى طرد الإمام الخميني رحمه الله بعد إقامة في النجف الأشرف استمرت ثلاثة عشر عاماً، ولأنني وخلافاً لما كان قد ساد بعد اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية قد دافعت عن وجهة النظر الإيرانية، وحمَّلت مسؤولية اندلاع تلك الحرب التي كانت ولا تزال جريمة العصر للقيادة العراقية.

إنَّ هذا ليس من قبيل الاعتذار لأي كان عما كتبته في مقال يوم الجمعة الماضي، ولعل ما لا يعرفه هؤلاء الذين لم يعطوا لأنفسهم الوقت الكافي لقراءة هذا المقال جيداً أنني راهنت على أن تصبح الثورة الإيرانية هي "الربيع العربي" الحقيقي، وأنني انطلاقاً من هذا قد عارضت، وكنت في طهران، تضمين الدستور الإيراني الجديد نصاً يقول: "دين الدولة الإسلام على المذهب الجعفري الاثني عشري"، فلقد كان رأيي، الذي تناقشت حوله مع السيد أحمد الخميني رحمه الله وبحضور القائد الفلسطيني هاني الحسن رحمه الله أيضاً وفي لقاء في مبنى رئاسة الوزراء الإيرانية، أن الثورة الإيرانية التي هي أهم حدث في القرن العشرين هي ثورة إسلامية، ويجب أن تكون للمسلمين كلهم، وأن هذا النص الدستوري سيكون شرارة فتنة نائمة بين السنّة والشيعة.

إن هذا ليس من قبيل التبرير ولا الاعتذار، والمؤكد أن هؤلاء الذين لم يقرأوا مقال يوم الجمعة جيداً لا يعرفون أنني من قبيلة "بني حسن" التي يوجد نصفها في الأردن ونصفها الآخر في العراق، وأن النصف الذي في العراق من أتباع المذهب الشيعي الشريف، وأن "النخْوة" التي ينتخي بها النصف الذي في الأردن هي "الجعافرة"، وأن الأردنيين لا يعرفون لا المذهبية ولا الطائفية، وأنهم كلهم يتشيعون لآل البيت لكنه تشيع الحب والعاطفة والولاء والإخلاص الصادق، وليس التشيع السياسي وتشيع الحكم والسلطة وكره الآخرين، ثم إن النجمة الأردنية السباعية ترمز إلى المذاهب الإسلامية: الحنفي والحنبلي والشافعي والمالكي والجعفري والإباضي والزيدي.

إن هذا ليس من قبيل التبرير ولا الاعتذار والمؤكد أن هؤلاء الذين لم يقرأوا مقال يوم الجمعة الماضي القراءة الصحيحة وانقادوا إلى التطرق إلى أمور لا يعرفون عنها شيئاً من بينها أنني عندما انتسبت إلى حزب البعث العربي الاشتراكي كنت أظن أنه سيحرر فلسطين وسيوحد الأمة العربية، حتى قبل وصوله إلى السلطة، وأنني انحزت لاحقاً إلى حركة الثالث والعشرين من شباط (فبراير) 1966 لأنني كنت أعتبر أنَّ القيادة التي تسلمت الحكم في العراق قيادة متخلفة ويمينية، وأنني قد قطعت صلتي التنظيمية بهذا الحزب بعد انقلاب حافظ الأسد في عام 1970؛ لأنني اكتشفت أن سورية مقبلة على حكم استبداديٍّ كاملٍ وخالصٍ للطائفة العلوية، ولأنني بتكويني العائلي والسياسي ضد الطائفية وضد التعصب الطائفي، سواء أكان سنياً أم علوياً أم شيعياً أم إباضياً أم زيدياً أم حتى إسماعيلياً.

إنني هنا لا أقدم كشف حساب لأيٍّ كان، ولكنها حقائق يجب أن أقولها، ومن بين هذه الحقائق أنني التقيت بالشيخ فهد الأحمد رحمه الله للمرة الأولى والأخيرة في منطقة الأغوار، وكذلك برفيق العمر أحمد الربعي (أبي قتيبة) رحمه الله، وكان يومها الوجدان العربي كله قد اتجه إلى المقاومة الفلسطينية، وإلى حركة "فتح" التي انطلقت عملياً من الكويت، والتي سمَّت جناحها العسكري: "العاصفة" في اجتماع مسائي على شاطئ "الصليبيخات"، ثم إنني في الفترة التي "عشت" فيها في لبنان كان أعز أصدقائي وما زالوا من أبناء الجنوب "الشيعة"، وأن الأعز من بين هؤلاء كلٌّ من السيد علي الأمين ابن العائلة الجنوبية المرموقة، والسيد هاني فحص وعبد المحسن إبراهيم.

إنَّ المشكلة وهذا هو رأي العديد من المراجع والقيادات الشيعية التي يُعتد برأيها هي أنه تم الانحراف بالثورة الإيرانية أولاً بعد رحيل الإمام الخميني، وقبل ذلك بعد إقصاء حسين منتظري، وأن الأخطر على المذهب الجعفري "الشيعي" هو أنه بات يُستغل لتحقيق أهداف سياسية للدولة الإيرانية، وأنه تم إقحام الشيعة إنْ في العراق وإن في سورية وإن في لبنان في صراع على "الدنيا" لا على "الآخرة" وفي صراع على السلطة، وحقيقة فإن هذا هو الذي يجري الآن وللأسف، والذي يجب أن يتصدى له المسلمون كلهم؛ لأن الخاسرين من استمرار هذا الصراع هم العرب والمسلمون كلهم والقضية الفلسطينية، ولأن الرابحين هُمْ الذين يريدون احتلالاً مقنعاً لهذه المنطقة والسيطرة عليها، وعلى خيراتها إلى أبد الآبدين.

إنَّ هذا كلام يجب أن يقال، وإني عندما ذكرت اسم عمار الحكيم في مقال يوم الجمعة فإن هذا كان من باب العتب؛ لأنني سمعت منه في لقاءات مطولة في عمان أكثر كثيراً من كل هذا الذي قلته، فهو شاب واسع الأفق وهو غير طائفي مع أنه جعفري ابن جعفري؛ حتى سيدنا عليّ كرم الله وجهه وهو ابن العائلة التي قدمت شهداء، مثلها مثل عائلة الصدر وعائلة الخوئي، كان تغييبهم خسارة للأمة الإسلامية كلها لا للطائفة الشيعية فقط.

وهكذا وفي النهاية فإنه من حق الشيعي والسني أن يرفض كل ما يرى، ويعتقد أن فيه مساساً بالوحدة الإسلامية، فنحن نتحدث عن مسائل سياسية لا علاقة لها بالمعتقدات الدينية، ونتحدث عن ضرورة إبعاد مكونات العراق المذهبية عما يجري في العراق من صراع على السلطة، وهو صراع قد حُشر فيه السنّة والشيعة حشراً، ثم إن الحرب العراقية-الإيرانية لم تكن حرباً سنية-شيعية بل كانت بين النظام العراقي والنظام الإيراني في ذلك الحين.