بيكيتي وروح العصر

نشر في 16-05-2014
آخر تحديث 16-05-2014 | 00:01
الحق أن كتاب «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» أعاد إشعال شرارة اهتمام خبراء أهل الاقتصاد بديناميكيات الثروة وتوزيعها، وقد دفع إلى المناقشات العامة بتفاصيل تجريبية بالغة الأهمية وإطار تحليلي بسيط لكنه مفيد، وأياً كانت أسباب نجاح الكتاب، فقد قدم بالفعل مساهمة لا يمكن إنكارها سواء لمهنة الاقتصاد أو الخطاب العام.
 بروجيكت سنديكيت في أيامنا هذه، يُلِح عليّ نفس السؤال أينما ذهبت وأياً كان الشخص الذي ألتقي به: ما رأيك في توماس بيكيتي؟ وهو سؤال ذو شقين في واقع الأمر: ما رأيك في كتاب بيكيتي، وما رأيك في بيكيتي كظاهرة؟

الإجابة عن السؤال الأول أسهل كثيراً، إذ إنه بالمصادفة البحتة، كنت من أوائل قراء النسخة الصادرة باللغة الإنكليزية من كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين". فقد أرسل لي ناشر بيكيتي، مطبعة جامعة هارفارد، تجارب ما قبل الطباعة، على أمل أن أساهم بتعريف الكتاب على الغلاف الخلفي، وفعلت ذلك عن طيب خاطر بعد أن أبهرني نطاق الكتاب وعمقه وطموحه.

بطبيعة الحال، كنت على دراية بأعمال بيكيتي التجريبية حول توزيع الدخل، والتي نفذها بالاشتراك مع إيمانويل سايز، وأنتوني أتكنسون، وآخرين، وقد أسفر هذا البحث بالفعل عن نتائج جديدة مذهلة حول ارتفاع دخول ذوي الثراء الفاحش، كما أظهر أن التفاوت بين الناس في العديد من الاقتصادات المتقدمة بلغ مستويات غير مشهودة منذ أوائل القرن العشرين، وهو عمل بارع في حد ذاته.

غير أن الكتاب يذهب إلى ما هو أبعد من العمل التجريبي، فيقص علينا رواية تحذيرية حول ديناميكيات الثروة في ظل الرأسمالية، ويحذرنا بيكيتي من الانخداع بالاستقرار الظاهري والرخاء اللذين شكلا تجربة مشتركة في الاقتصادات المتقدمة خلال بضعة عقود من النصف الثاني من القرن العشرين، وتقول لنا روايته إن القوى غير الداعمة للمساواة والمزعزِعة للاستقرار ربما تكون لها الغَلَبة داخل الرأسمالية بطبيعتها.

ولعل ما يجعل كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" مادة عظيمة للقراءة، بعيداً عن الحجج التي يسوقها الكاتب في حد ذاتها، هو ذلك الشعور الذي يتملك القارئ بأنه يشهد مصارعة عقلية بديعة مع التساؤلات الكبرى في عصرنا، والواقع أن تأكيد بيكيتي على الطبيعة السياسية لعملية توزيع الدخل؛ وتنقله الرشيق بين القوانين العامة التي تحكم الرأسمالية والدور الذي لعبته المصادفة؛ واستعداده لتقديم علاجات جريئة (وإن كانت غير عملية في نظر كثيرين) لإنقاذ الرأسمالية من نفسها، كل هذا ممتع بقدر ما يُعَد نادراً بين أهل الاقتصاد.

ولذا، كنت أود لو أزعم أنني كنت مستبصراً في تنبئي بالنجاح الأكاديمي والشعبي الهائل الذي كان الكتاب سيحققه فور نشره، ولكن في حقيقة الأمر، كان استقبال الكتاب مفاجأة كبرى.

فالكتاب ليس بالقراءة السهلة، فعدد صفحاته يقرب من سبعمئة (بما في ذلك التعليقات والحواشي)، ورغم أن بيكيتي لا ينفق الكثير من الوقت على النظرية الرسمية، فهو من حين لآخر يستخدم معادلة أو يورد بعض الحروف اليونانية في أنحاء متفرقة من النص. وقد أطنب المراجعون في تناول إشارات بيكيتي إلى أونوريه دي بلزاك وجين أوستن؛ ولكن الحقيقة أن القارئ سوف يواجه في الأساس نثراً وإحصاءات جافة من رجل اقتصاد، في حين تندر اللمحات الأدبية التي قد يصادفها وتتباعد.

ولم تكن استجابة مهنة الاقتصاد للكتاب إيجابية بشكل موحد، ذلك أن حجة الكتاب تدور حول عدد من الهويات المحاسبية التي تربط الادخار والنمو والعائد على رأس المال بتوزيع الثروة في المجتمع، والحق أن بيكيتي شديد البراعة في جلب هذه العلاقات المجردة إلى الحياة من خلال تزويدها بأرقام حقيقية وتتبع تطورها على مر التاريخ، ورغم ذلك فإن هذه العلاقات معروفة جيداً لدى علماء الاقتصاد.

ويستند تشخيص بيكيتي المتشائم إلى امتداد طفيف لهذا الإطار المحاسبي، فبموجب افتراضات معقولة- أو على وجه التحديد أن الأثرياء يدخرون بالقدر الكافي- تستمر نسبة الثروة الموروثة إلى الدخل (أو الأجور) في التزايد ما دام متوسط معدل العائد على رأس المال يتجاوز معدل نمو الاقتصاد ككل، ويزعم بيكيتي أن هذه كانت القاعدة التاريخية، باستثناء الفترة المضطربة في النصف الأول من القرن العشرين، وإذا كان هذا هو ما يبدو عليه المستقبل، فإننا نواجه واقعاً مريراً حيث تتسع فجوة التفاوت حتى يبلغ مستويات غير معهودة من قبل.

ورغم هذا فإن الاستقراء أمر خطير في الاقتصاد، والأدلة التي يقدمها بيكيتي لدعم حجته ليست قاطعة، فكما زعم كثيرون، ربما يبدأ العائد على رأس المال بالانخفاض إذا أصبح الاقتصاد أكثر ثراءً برأس المال نسبة إلى العمل، وغير ذلك من الموارد مع تباطؤ وتيرة الإبداع. وبدلاً من ذلك، كما أشار آخرون، فقد يكتسب الاقتصاد العالمي بعض السرعة بدعم من التطورات الجارية في العالمين الناشئ والنامي، ولعل رؤية بيكيتي تستحق أن نتعامل معها بجدية، ولكنها ليست قانوناً صارماً.

وربما ينبغي لنا أن نبحث عن مصدر نجاح الكتاب في روح العصر، فمن الصعب أن نصدق أنه كان سيخلف نفس التأثير قبل عشر سنوات أو حتى خمس سنوات في أعقاب الأزمة المالية العالمية مباشرة، رغم أن حججاً وأدلة مطابقة كان من الممكن الدفع بها في ذلك الحين، فقد تراكم الانزعاج وعدم الارتياح إزاء فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع لفترة طويلة بعض الشيء في الولايات المتحدة. وقد واصل دخول الطبقة المتوسطة الركود أو الانحدار، رغم تعافي الاقتصاد، ويبدو أنه بات من المقبول الآن أن نتحدث عن عدم المساواة في أميركا باعتباره قضية أساسية تواجه البلاد، وقد يفسر هذا لماذا حظي كتاب بيكيتي بقدر أعظم من الاهتمام في الولايات المتحدة مقارنة بموطن الكاتب الأصلي فرنسا.

الحق أن كتاب "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" أعاد إشعال شرارة اهتمام خبراء أهل الاقتصاد بديناميكيات الثروة وتوزيعها، وهو الموضوع الذي شغل أهل الاقتصاد الكلاسيكيين مثل آدم سميث، وديفيد ريكاردو، وكارل ماركس، وقد دفع إلى المناقشات العامة بتفاصيل تجريبية بالغة الأهمية وإطار تحليلي بسيط لكنه مفيد، وأياً كانت أسباب نجاح الكتاب، فقد قدم بالفعل مساهمة لا يمكن إنكارها سواء لمهنة الاقتصاد أو الخطاب العام.

* داني رودريك ، أستاذ العلوم الاجتماعية في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون بولاية نيوجريسي، وهو مؤلف كتاب "مفارقة العولمة: الديمقراطية ومستقبل الاقتصاد العالمي".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top