"مصر أم الدنيا وهتبقى أد الدنيا" هذا أحد التعبيرات التي كررها المشير السيسي خلال الفترة الماضية عدة مرات ولاقت شعبية كبيرة، ذكرها قبل ثورة المصريين في الثلاثين من يونيو من العام الماضي أمام جنوده وضباطه، ثم كررها أمام الشعب عدة مرات بعد نجاح ثورته التي حماها الجيش، وحمل نفس المعنى في طيات حديثه وقت إعلان ترشحه للرئاسة، قد تبدو الجملة كأنها جزء من المبالغة اللفظية أو التعبيرات الجمالية في اللغة أو قدرة على التلاعب بالألفاظ ليحظى المتحدث بآهات المستمعين، لكن الحقيقة التي وجدتها منذ اللحظة الأولى وتأكدت لدي بعد ذلك بشكل عملي أن التعبير يحمل في داخله إيماناً كبيراً بصحته وإمكانية حدوثه، إيماناً داخلياً لدى من أطلقه بقدرات هذا الشعب الذي فاجأ الجميع، حتى نفسه، بقدرته على الفعل، وعلى تصحيح الخطأ إذا ما انزلق إليه.
مصر أم الدنيا تعبير نشأنا عليه وعشنا فيه وعاش معنا، هو أيضاً تعبير يستخدمه دائماً محبو مصر من العرب وهم كثر، وأصبح هذا التعبير علامة مميزة لمصر بين أبنائها وبين محبيها، وقد يكون منطلق هذا التعبير عائداً إلى ما تمتلكه مصر من حضارة وعمق في التاريخ وكثافة سكانية ووزن ومكانة في المنطقة والعالم، وهي الصفات التي تعرضت لتهديد بواسطة الجماعة التي كانت حاكمة، فهي لم تفهم مصر وقيمتها في الحضارة الإنسانية والضمير البشري وحاولت تقزيمها والتعامل معها باعتبارها ولاية صغيرة مهما كبر حجمها في ظل حلمها بالدولة الإسلامية، قد يكون هذا السلوك وهذا القصور في فهم قيمة ودور مصر من أهم الأسباب التي عجلت بسقوطها المدوي، رفض المصريون الإحساس بإهانة "أم الدنيا" على يد بعضٍ من أبنائها ضلوا الطريق وأهانوا وطنهم.عادت "أم الدنيا" لقيمتها ووضعها بأيدي أبنائها الذين رفضوا العيش في ظل التقزيم، ونأتي الآن إلى الجزء الآخر من التكوين الجديد الذي أطلقه السيسي وأضاف إليه "أد الدنيا" ويكون السؤال هنا كيف يمكن لمصر أن تكون "أد الدنيا"؟ كيف يمكن أن تحتل مكانتها الصحيحة التي تليق بها بين الأمم؟ كيف يمكن أن تدور في فلك العالم، عالم القرن الواحد والعشرين، وليس فلك عالم القرن العاشر؟وسأبدأ بالحديث السياسي قبل الحديث الاقتصادي، السؤال المطروح الآن هو أي التجارب يمكن أن تسير فيها مصر، التجربة التركية أم تجربة جنوب إفريقيا؟ يدور جدل سياسي بين المثقفين والسياسيين والمتخصصين حول اختيار أي الطريقين، ويمتلك كل طرف، يميل إلى تجربة، أسبابَه التي تجعله أكثر ميلاً لما يعتقده، وكل تجربة تمتلك بالفعل أسباب نجاحها ومميزاتها، ويمكن أن نتناول ذلك مرة أخرى، مفهوم المصالحة ووضع الجيش في المعادلة السياسية وحدود دور القوى السياسية الدينية، كل هذه موضوعات حاضرة للمناقشة ولها أبعادها المختلفة.أظن أن الخطوة الأولى نحو تأكيد مفهوم مصر التي ينبغي أن تكون "أد الدنيا" هو أن نتوقف عن البحث عن أي من التجربتين يصلح لمصر، تركية أو جنوب إفريقية والاقتناع والعمل على أن يكون لنا تجربتنا المصرية، تلك التجربة التي تمتلك داخلها مقوماتها الخاصة القادرة على النجاح والمرور إلى الأمام بالوطن خارج منطقة "النوات" السياسية، يمكن بالفعل ترسيخ مفهوم التجربة المصرية التي بدأت بخروج شعبي هادر تبعه استجابة جيش الشعب لنداء من يدينون لهم بالولاء، فوقف مع الشعب وحماه، وحقق له حلمه باستعادة الوطن، ووضع خريطة طريق واضحة بدا الالتزام بها منذ الإعلان عنها، وتجاوبت معها الأغلبية العظمى من الناس لإخراجهم من النفق، تكتمل هذه التجربة المصرية بالانتخابات الرئاسية بعد أن أقر الشعب الدستور ثم الانتخابات البرلمانية بالأسلوب الذي يتوافق مع طبيعة المجتمع والظروف التي نمر بها. الجانب الآخر من الجهد هو الجانب الاقتصادي، الذي يحتاج إلى مساحة أكبر للنقاش، ولكني أكتفي هنا بالقول إن مصر في حاجة إلى جهد مزدوج من أهلها وأشقائها، عودة البناء وعجلة الإنتاج هي الأساس، إعادة تفعيل وتطوير البنية التحتية هي هدف مهم، وأظن أن للجيش دوراً كبيراً في هذه المنطقة، أما الأشقاء فيجب أن يعلموا أن مصر قد أنابت عنهم بشعبها وجيشها في نزع ورم سرطاني كان سيتمدد ليعصف بهم، وأقل ما ينبغي عمله هو الوقوف الحقيقي إلى جانب مصر في هذه المرحلة لتأخذ مكانتها التي تؤهلها لتكون "أد الدنيا" بأهلها أولاً وأشقائها، نجاح مصر في الوصول إلى شاطئ الاستقرار والأمان هو ضمانة ليس لمصر فقط بل للأشقاء الذين حمتهم مصر بوقفة شعبها وجيشها في وجه الخطر الذي لم ينته تماماً بعد.
أخر كلام
نحو تأسيس التجربة المصرية
12-04-2014