الأغنية كانت تولد من رحم بيوتنا، من ساحاتها، من زوايا غرفها، من ضحكات أطفالها، وشغبهم، من الأحلام المخبأة بين الريش في وسائد النوم، من الحكايات والأسرار الصغيرة التي تُكتب بماء القلب.

Ad

الأغنية كانت تراعي تعب الآباء بعد عناء يوم شاق، تغمس موطئ أقدامهم بآنية مملؤة بالماء الساخن والملح، وتدلّك ظهورهم المتعبة من حمل همومهم اليومية، تصالحهم مع متعة الحياة والجمال فيها.

كانت الأغنية تدخل المطبخ مع أمهاتنا وتعدّ الطعام معهم، فلطالما سمعت أمي تترنم بأغنية ما أو سامرية ما حينما كانت منهمكة في إعداد وجبة الطعام لنا، وكنت أستطيع من خلال أغنية ذلك اليوم قراءة الخريطة المزاجية لأمي وقتها.

كما كانت الأغنية تنتهز الفرص لتأخذ الشاب أو الشابة في ركن قصيّ من البيت وتسمع نبضات قلوبهم وتتفحصها، وتحاول أن تشاركهم أفراحهم الثمينة التي يتحاشون أن يلمحها أحد، وأسرارهم العاطفية المخبأة بين حناياهم، وتصغي بكل حنو لبوحهم وتترجمها الى كلمات رقيقة معبّرة تزيح عن قلوبهم كثيراً من الضيق والوحشة، وعندما تضيق صدورهم لا يجدون سوى هذه الأغاني يقاسمونها تلك الفرحة، أو حتى تلك الدمعة الغالية.

كانت الأغنية أحد أفراد الأسرة، والابنة الشرعية لها، كانت "حليلة" للكل، الأم لا تغطّي وجهها عنها حياءً، والأب لا يمانع مشيها حافية في أرجاء المنزل، تنتقل فيه كيفما تشاء دون أن يستغرب فعلها أحد.

والأطفال كانوا يأنسون لها، ويألفونها، ويلحّون عليها بمشاركتهم مراجيحم، كما كانوا يلحّون عليها بمصاحبتها لهم قبل النوم وهم على أسرّتهم، ومشاركتها لهم مضاجعهم.

كانت الأغنية تشارك الأطفال حليب أمهاتهم، كانت ترضع معهم، لذلك كانت الأغنية أخت الجميع بالرضاعة، كانت الأغنية تحضر مجالس الرجال والنساء على حدّ سواء، ومتى ما شاءت هي لا وقتما يشاؤون، الكل كان يتقبل دلالها بروح سمحة، لا أحد يحس بالحرج لوجودها، ولا يتوقع منها أحد أن تتفوه بكلمة تخدش الحياء، أو أن تتلفظ بمفردة نابية أو سمجة لا معنى لها.

الأغنية كانت رفيقة الكل في كل الأوقات تقريبا، ولم تكن فقط جليستهم في أوقات السمر، وأوقات اللهو والفراغ، بل كانت لصيقة بكل أفراد المجتمع حتى وهم يجنون قوتهم، كانت مصاحبة للبحار في البحر، وللقلاف وهو يصنع السفينة، وللمزارع وهو يزرع، وللحداد وهو يضرب الحديد الساخن بمطرقته، وللبدوي وهو يحث راحلته لقطع مسافات السراب، وللنساء وهنّ يطحن حَب الهريس أو الأخريات اللاتي يخطن من السدو مفارش وبيوتاً من الشعَر.

لم تكن الأغنية جزءا من الأسرة، فحسب، بل جزءا لا يتجزأ من حياة المجتمع والناس ايضاً.

الآن تحاذر كثيراً قبل أن تدعو أغنية إلى فنجان قهوة في بيتك! أصبحت الأغنية ابنة الشارع، من الخطأ الفادح أن تدخلها بيتك قبل أن تتأكد من طهارتها!

أصبحت الأغاني عشبا ضارا لا يُزرع داخل سور البيت وأزهارا مسمومة لا تنتج العبير ولا الشذى، أصبحنا حريصين على مراقبة ما يسمع أبناؤنا من الأغاني، ونخاف من الأغاني كما كان آباؤنا يخافون علينا من أصدقاء السوء!

نرتعب من أن تتسلل أغنية ما خلسة إلى بيوتنا دون أن نفتشها تفتيشا ذاتيا دقيقا، لنتأكد من أنها لا تخبئ تحت ملابسها الداخلية شيئا من الممنوعات!