أستاذ الفلسفة صلاح قنصوة: محاربة الفتنة تبدأ ببناء الفرد على قِيَم الجمال

نشر في 19-07-2014 | 00:02
آخر تحديث 19-07-2014 | 00:02
أكد أستاذ فلسفة الجمال في جامعة «القاهرة» الدكتور صلاح قنصوة أن بناء الفرد المسلم على قيم الجمال الأخلاقية يشكِّل البداية الصحيحة لمحاربة الفتنة ومحاصرتها في المجتمعات العربية، مضيفاً أنه لا يمكن التفرقة بين الثورة والفتنة بشكل موضوعي لأنها تستخدم حسب الهوى السياسي، ومشدداً على أن السلفيين «عبيد الحاكم» وخطابهم جنسي ينظر إلى المرأة بدونية، في حين أشاد بقيم الإسلام الأصلية التي يتم تشويهها، فالإسلام دين تسامح وسلام وضد فكرة الاحتراب الأهلي. وحذر من أن الفتنة التي بدأت سياسية تحولت إلى عقائدية لحشد البسطاء في صراعات السلطة، في ما يلي نص الحوار.
كيف تحدد الربيع العربي بين الفتنة والثورة؟

يمكن تصنيف الربيع العربي حسب الموقف الخاص أو الذاتي من الأحداث، فأي حدث يمكن أن تطلق عليه ثورة إذا كنت تؤيده، وإذا كنت ضده فستراه فتنة. نجد مثلاً أن ثورة «30 يونيو 2013» يعتبرها الجيش وغالبية الشعب المصري ثورة، ولكن ثمة فصيلاً آخر يعتبرها فتنة وانقلابا عسكرياً وينسى تماماً أن مواطنين خرجوا في ما نسميه نحن ثورة، لأننا أصحاب موقف ومؤيدين لها. لذلك من الصعب التفرقة بين كلمتي ثورة وفتنة بشكل موضوعي، إذ تصنفابحسب الموقف السياسي الخاص من الأحداث.

لماذا تطل فتنة الحرب الأهلية الآن على المشهد العربي؟

الموضوع مرتبط بالقوى السياسية وحجمها، إذا كانت أغلبية أو أقلية ومدى إمكاناتها وقوة تأثيرها، فإذا كان أصحاب موقف معين أقلية حُكم عليه بالزوال في وقت قريب، وعند التطلع إلى ليبيا وتونس ومصر وسورية نجد حرباً أهلية. وهنا لا بد من أن ننظر إلى القوى، ففي أي موقف سياسي تُرسم خارطة للقوى المتصارعة، من هي هذه القوى الرئيسة ومن حلفاؤها؟ ومن القوى الأخرى المضادة وحلفاؤها؟ وذلك بالنظر إلى الحجم، ومساحة التأسيس، والفاعلية والمستقبل، والتأثير على القاعدة الشعبية من الجماهير... علينا وضع ذلك كله في الاعتبار.

هل هذا يعني أن كثرة الأحزاب وتشرذمها يؤديان إلى حرب أهلية؟

العبرة ليست في الكثرة، ففي مصر لا قيمة للأحزاب الموجودة على الإطلاق لأنها كثيرة جداً، والمشكلة تكمن في توافر قوى محددة المواقف إلى حد ما ضد موقف سياسي آخر، وهنا نبحث عمن يؤمنون بهذا الموقف، ومن يرون أن هذا ضد موقفهم ونبحث عن الغالبية منهم، ومن لهم تأثير على القاعدة الكبرى من الجماهير. مثلاً، خلال الانتخابات السابقة كان الشعب يقف إلى جانب جماعة “الإخوان”، لكن بعد تولي محمد مرسي الحكم تراجع الشعب عن تأييد الجماعة ومساندتها. لكن عندما انفض الجميع من حول الجماعة لم تستطع فعل أي شيء لأن القدرة على الفعل مرتبطة بالقدرة على الحشد.

كيف تفسر الأحداث في سورية والعراق  في ضوء هذه الرؤية؟

هي أقرب ما يكون إلى الحرب الأهلية، لأن من يحاربون بعضهم البعض هم أهل البلد الواحد، وإن كان بعض القوى اعتمدت على متطوعين من الخارج. في البداية رحبنا بثورة الربيع العربي في سورية والتي ظهر أحد تجلياتها ضد نظام بشار الأسد، ولكن ثمة من دخل على خط الأزمة لإشعال الفتنة والاستفادة لتحقيق مصالح معينة، فوجدنا تدخلات ممن يدعون احتكار الإسلام السياسي من أنصار تنظيم «القاعدة»، ومن بينهم {جبهة النصرة»، وتنظيم «داعش» الذي طور الثورة إلى حرب أهلية في كل من العراق وسورية.

أين تضع الصراع السني الشيعي في إطار تلك الحرب الأهلية؟

هو صراع سياسي وليس دينياً، فالتصنيف الديني معطف خارجي، ولكن الأصل سياسي نابع من أسباب يمكن أن تكون اقتصادية أو اجتماعية متعددة، وهذه مظاهر خارجية أو تجليات لما هو أعمق، فكلمة فتنة استخدمناها في تاريخنا وثقافتنا وتراثنا وتجلت في بدايتها في الصراع بين الشيعة والسنة، بداية من فتنة مقتل عثمان بن عفان، التي بدأت معها إرهاصات تقسيم المسلمين إلى سنة وشيعة. وإذا انتقلنا إلى الواقع، وجدنا أن الاصطفاف السياسي القائم على أسس مذهبية هو في حقيقته انعكاس لحقيقة التحالفات السياسية القائمة على المصلحة الاقتصادية والاجتماعية، فالتفسير الديني هو محاولة سطحية لأعراض ولكن الأصل أعمق.

تحث الأحاديث النبوية على اعتزال الفتنة، هل تحقيق هذا الأمر ممكن؟

إذا تحدثنا في المجال الديني من حيث الوعظ والإرشاد فإن الأحاديث تحث على البعد بقدر المستطاع عن الخلاف، ويجب ألا نأخذ من الأحاديث موقفاً سياسياً محدداً إزاء الاختلافات المذهبية أو السياسية، وهذه العظة من الممكن أن نعتزل من خلالها الفتنة، لكن استغلال هذه الفتن لتحقيق أغراض سياسية يحول دون ذلك.

لماذا وقف مؤرخو السلطة بالمرصاد لكل حركة اجتماعية ووصموها بالفتنة؟

لأن كلمة فتنة تستخدم في الحياة الاجتماعية أو السياسية بدلالة سيئة، وهذا يظهر مثلاً في خطب الجمعة أو في أي مكان يتضمن وعظاً وإرشاداً، ستجد أنه بوجود الخلافات لا تُستخدم الألفاظ فبدلا من المحاربة بشكل واضح تتحارب الألفاظ. والخطاب السياسي يقوم على هذا الأمر، فثمة ما يسمى بحرب الألفاظ أو الكلمات، لذلك استخدم مؤرخو السلطة وفقهاؤها مصطلح الفتنة لأجل حماية النظام السياسي من السقوط، بتشويه كل من يحاول إسقاطه لاستبداله بنظام أكثر عدالة، فالغرض السياسي واضح وهو هنا يلغي المعيار الأخلاقي.

هل ينطبق هذا الأمر على وصف علماء الدين التقليديين أي محاولة للتجديد بأنها فتنة؟

لأنهم يبحثون عن السلطة، فالدين الإسلامي لا يعرف رسمياً وعقائدياً مفهوم رجال دين، ولكنهم تحايلوا على هذا الأمر وأطلقوا على أنفسهم علماء دين، والعلماء في منظوري هم حفظة للنصوص، لذلك إطلاق كلمة علماء عليهم يمثل خداعاً وتضليلاً وكل هذا صنعه أصحاب السلطات لأنهم جعلوا من هؤلاء خدماً لهم.

لماذا الربط بين الفتنة وعملية الخروج على الحاكم؟

الفتنة هي الخروج على قاعدة تحكم مجالاً أو بشراً، وقد استخدمت في القرآن في قوله تعالى: “الفتنة أشد من القتل”، كذلك تعني زرع الشقاق، وفكرتها مبنية على أنها ضد الخشوع والانصياع. ويرى الحاكم دائماً في كل ثورة فتنة لأنها تمثل الخروج عن الانصياع له وتتحدى سلطته، ولكن بالنسبة إلى الجماهير تعتبر ثورة، فإذا نظرت إلى الموضوع من وجهة نظر السلطة فستجد أن أي مظهر من مظاهر تحدي هذه السلطة يُعد فتنة وخروجاً على الحاكم الذي يدعي أنه الحاكم الشرعي. أما إذا تناولت الأمر من وجهة نظر الفئات الشعبية التي تعاني مشاكل جمة فإن الأمور ستختلف وسترى أنها ثورة أو حركة احتجاجية على أقل تقدير.

هل صحيح حصر التيارات السلفية الفتنة في النساء والمال؟

إذا نظرنا إلى خطاب السلفيين الفكري سنجد أنه  ينظر إلى المرأة نظرة دونية،  من دون أن يعطي لها قيمتها التي كرمها بها الخالق سبحانه وتعالى.

أما المال فهو فتنة لدى الجميع، وليس السلفيين فحسب.

يمثل السلفيون اتجاهاً لا ترضى عنه غالبية المسلمين، لأنهم يساعدون في توسيع دائرة الانشقاق وهوة الخلاف داخل المجتمع المسلم الواحد، ما يؤدي إلى الفتنة، وأي خروج أو عدم انصياع عن القاعدة العامة يسمى فتنة، ولأنهم يحصرون المشاكل في مساحة ضيقة من الشريعة الإسلامية.

كيف نبني مجتمعاً إسلامياً لا يعرف الفتنة؟

الدين والقرآن الكريم يؤكدان أن الإنسان سيحاسب في الآخرة فرداً لقوله تعالى: «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا» (مريم: 95). المسؤولية  في الإسلام إذاً أو في أي دين تعتمد على الفرد، والإصلاح يبدأ من الفرد ولا علاقة له بأن يكون إسلامياً أو غير إسلامي، ولا علاقة لهذا الأمر بالدين فمن الممكن أن أكون شديد التدين في مجتمع حقير ومنحط، ومن ثم فأنا غير مسؤول عنه، بمعني أنني كفرد أعمل ما يحضني عليه الدين ولكن كمواطن أفكر في واجباتي تجاه الوطن. الله عز وجل يحاسب الفرد على ما يظهر منه وما بطن، وذلك بالنسبة إلى الدين ولا ينطبق على السياسة. أعتقد أن علينا الابتعاد عن فكرة المجتمع الإسلامي، لأن تربية الفرد المسلم على معايير الجمال الأخلاقية البداية الصحيحة لبناء المجتمع المسلم، علماً أن مصطلح «المجتمع الإسلامي» يبدو في الظاهر طيباً ولكن مدلوله سيئ لأن أصحاب السلطة يفرضون آراءهم في المجتمعات الإسلامية، ولا يوجد ما يُسمى بمجتمع إسلامي بل أفراد مسلمون.

هل أنت مع الرؤية التي تقول إن الغرب استخدم الفتنة لتفريق بلاد المسلمين؟

يمكننا مناقشة هذا الكلام، لكن استخدام كلمة الغرب على هذا النحو مطاطي، خصوصاً أن الغرب لا يعنيه الإسلام والمسلمين، وأكثر القوى التي تتحالف مع الغرب الاستعماري من المسلمين، والنظم كافة المرتبطة بالغرب الإمبراطوري من المسلمين، ومثال على ذلك باكستان وهي إحدى الدول الإسلامية تتبع الغرب سياسياً. مسألة التفريق بين بلاد المسلمين وبلاد الغرب، على اعتبار أن الأخيرة هي المسؤولة عن كل مشكلة في مجتمعاتنا، أمر مغلوط.

كيف تصدى الإسلام لفتنة الاحتراب الأهلي؟

لا علاقة للإسلام بالموقف السياسي من المصطلح الحديث، إنما له شأن بسلوك الفرد، وحفل القرآن الكريم بدعوة المسلمين إلى التسامح، فالإسلام في حقيقته ضد فكرة الاحتراب الأهلي، ويحث على حسن الخلق والتسامح والمحبة، ويحرص على حرية العقيدة مع احترام ممارستها وعدم الإجبار على تركها، وتستهدف رسائل الأنبياء كافة الخير للبشر، والرسل قدوة للناس في الأخلاق.

ما هي أبرز الفتن في التاريخ الإسلامي التي أثرت سلباً على تقدم المسلمين؟

أبرز فتنة موجودة في التاريخ الإسلامي، هي الانقسام بين الشيعة والسنة، والاتهامات المتبادلة بالكفر، فجذور الخلاف الرئيس بينهما تعود إلى أكبر وأول أزمة مرّ بها التاريخ الإسلامي، وهي الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان بن عفان. كانت هذه الفتنة والنزاعات العنيفة التي خلفتها، لا سيما بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، السبب الرئيس وراء تفتت وحدة المسلمين.

كان موقف معظم الصحابة محاولة إنهاء الفتنة وأخذ مكان حيادي من النزاع، ولعل أكبر ممثل لهذا الاتجاه عبد الله بن عمر الذي صرح بهذا الموقف مرات عدة. هذه الحيادية، وإن كانت تميل غالباً إلى إعطاء الأحقية في النزاع لعلي دون معاوية، إلا أنها في النهاية تنحو نحو المساواة بين جميع الصحابة أخذاً بالقول إن «المجتهد إذا أخطأ فله أجر، وإذا أصاب فله أجران». فالانقسام في تلك الفترة بدأ أنه سياسي (يرى البعض أن لعبد الله بن سبأ اليهودي الضلع الكبرى في إشعال نار الفتنة)، لكنه أصبح عقائدياً مع الوقت. ويتهم البعض الدولة الصفوية بإثارة الخلافات العقائدية بين المسلمين من جديد منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي، بعدما كانت نار الفتنة الطائفية هدأت، وأول من تطرق إلى هذا الأمر حسن العلوي في كتابه «دماء على نهر الكرخا».

بطبيعة الحال، فإن أي انقسام أو شقاق يؤثر على تقدم الأمم، وهو ما يحدث فعلاً الآن في المجتمعات الإسلامية. لكن الأصل في كلمة فتنة استخدم عندما اندلع الخلاف السياسي، ولا علاقة له بالعقيدة. ونجد أن الفتنة الآن بين الشيعة والسنة سياسية أكثر منها عقائدية، فالخلاف يصل إلى الشكل، إذ يرتدي الشيعي الزي الأسود فيما يختار السني الزي الأبيض وهكذا، وقد خدعت الجماهير البسيطة الساذجة بالخلط بين السياسي والديني، وتقاتلت بسبب ذلك، وذلك كله جراء الفتنة الأولى، والتي ما زالت تؤثر على البسطاء.

   في سطور

الدكتور صلاح قنصوة أستاذ فلسفة الجمال في جامعة “القاهرة”، من مواليد القاهرة عام 1936، بدأ حياته العلمية باحثاً في المركز “القومي للبحوث الاجتماعية”، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة “القاهرة”، ودكتوراه في مناهج البحث من دولة “النرويج”، وعمل كأستاذ لفلسفة الجمال في أكاديمية الفنون، وتولى منصب عميد المعهد العالي للنقد الفني، ومنصب مقرر لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة المصري مرتين، فضلاً عن حصوله على جوائز عدة، أبرزها جائزة الدولة التشجيعية، وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، جائزة التفوق، وجائزة الدولة التقديرية.

ولقنصوة مؤلفات عدة؛ من بينها: “فلسفة العلم”، “الدين والفكر والسياسة”، “تمارين في النقد الثقافي”، “الموضوعية في العلوم الإنسانية”، “في فلسفة العلوم الاجتماعية”، فضلاً عن إشرافه على رسائل دكتوراه وماجستير في الجامعات العربية.

back to top