رنا التونسي في «السعادة»... السعادة يقتلها ويحييها رجل
من مستهلّ بوحها في «السعادة»، تبدو رنا التونسي شاكية غموض العاطفة مكلِّلة إيّاه بغموض اللغة، فكأنّها تخشى حقيقة مضت زمنيّاً إلاّ أنّ لها أكثر من ظلّ على بساط الروح، وحقيقةً آتية إلاّ أنّها لا تزال مسوَّرة بقلق المجهول.
قد تكون السعادة أن نعرف كلّ شيء، فماذا لو عرفنا؟ وقد تكون أن تمتلك كلّ شيء، فماذا لو امتلكنا؟ إلاّ أنّ من الضروري جدّاً أن نحمّل اللغة همّ البحث عن السعادة، وأن نحرّض مفرداتها على مطاردتها في دنيا الوهم أو الحلم أو الحقيقة. وقد تكون الكتابة بدلاً من ضائع للسعادة ولو أتت طاعنة في الألم والحزن والوحدة.في جديدها الشعريّ «السعادة» تفتح الشاعرة المصرية رنا التونسي أبواب ذاتها وتدخل بمعيّة قليل من الحبر والورق. وأوّل المستقبلين لها في ذاتها الكثيرة والدها الذي يواصل الاتصال هاتفيّاً بأمّه بعد موتها، فكأنّ الموت تعطّله العاطفة من خلال عدم الانقطاع عن عادات حميمة سابقة. وإلى جانب الأب تحضر الأمّ مقيمة في القُبلة: «أحياناً يُخيَّل إليّ أنّ والدي يتحدّث على الهاتف مع جدّتي التي ماتت منذ أعوام قليلة / أنّ أمّي دخلت الفيلم / ولا تريد أن تخرج من القبلة / أنّ الحياة أفراح / أنّي سأنجب ثلاث سمكات صغيرات من رجل لا أعرفه»...
وفي غياب شبه تامّ لأحد تسند الرأس إلى صدره تحلم بإنجاب السمك ساعية إلى عائلة من الأشجار تتبنّاها: «عائلة من الأشجار السامقة / أعانقها طويلاً كالرّيح»... وإذا كان لا بدّ من سعادة لها فهي لن تكون إلاّ موشومة بالحبّ الذي يعرف من أي تؤكل كتف الوحدة، وكيف يصير الحزن في الزاوية المعتمة من الذاكرة: «...على سلّم خشبيّ مهجور / سيوصلني حتماً إلى السماء / فقط إذا أحببت».تركّز التونسي على الفيلم، تضع ماضيها برسم الأبيض والأسود، على كثير من الضباب، فأهل الأمس موجودون وغائبون، يحضرون ولا يكونون أحداً: «العائلة داخل تلفاز قديم / صُوَر بالأبيض والأسود / صوت ممزوج مع قليل من الوششش / وأنا لا أعرف كيف أسمعك». من هو هذا الرّجل الذي يصل صوته ولا يصل، يقول ولا يقول. من هو الذي سريره خارطة العالم، والذي يمدّ السبعة البحور بين العين والقبلة، وهل من رجل يُحَبّ دائماً، أو بصيغة أخرى للسؤال: هل للحبّ أن يكون دائماً: «العيون بعيدة لا تقطف القبلات / الرجل نائم فوق خريطة /... أجمل رجل الذي أحببته دائماً / رأيته بعيون الدهشة / يملك كلّ صكوك الغفران». ما تريده التونسي من الحبّ هو رجل دائم، رجل يطلع من عينيه عطر الدهشة، رجل يحلم به الشرق ولا يسمح لرحم امرأة بولادته. ولعلّ غياب هذا الرجل هو الذي يجعل: «السعادة لعبة الغياب»، ويجعلها أمّية لا تحسن قراءة الوجوه فتحيا بعيداً من الذين ينذرون صدورهم كهدفاً لها وأيديهم أغصاناً في شجرتها وأيّامهم بيتاً أنيقاً من الوقت موعوداً بيدها تطرق الباب: «السعادة لا تقرأ وجوهنا / لا تعرف أنّ عليها الآن أن تأتي سريعاً / لتقف بجوارنا إخوةً في الانتظار». زمن مختلفوكلّما ازداد توغّل التونسي في ذاتها اكتشفت أنّ وقتها لم يصل بعد، وأنّ ساعتها وساعة العالم لا تمضيان في الاتجاه ذاته، ولم ينضج وقتهما معاً، فزمنها مختلف. إنّها الآتية ربّما قبل الأوان، لأنّ العالم لا يزال في قبضة نومه ولم يهيّئ لها بعد حصّتها منه: «العالم ما زال مبكراً / لم يفتح عينيه بعد ليراني». وتحت وطأة الفراغ تشعر التونسي بأنّها تحتاج إلى قائد ما يحكم حركتها في الاتجاه المناسب، ولعلّ هذا القائد هو المنتظَر أن يولد منها أو فيها. ولعلّه غير ممكن الوجود خارجها ولو أنّها تقول: «عجلة كبيرة أدور على الأرض / لا أرى يد المقود / ولا الفرامل / ولا سائق يركض أثري»... ويتّضح، من سياق البوح، أنّها تبحث عن زمن مفقود، وعن وطن منبوذ من جغرافيته ومهجّر من ماضيه: «يا ربّ يصبح لنا وطن / يا ربّ ترجع لنا الأيّام؟ إذاً، إنّ التونسي تحنّ إلى سعادة كانت وتتوق إلى أخرى قد تكون فريسة من فرائس الزمن الآتي. وإذا كان من وضوح يعبر بين جملة وأخرى، فإنّ الغموض يعود ويجتاح المشهد حين الكلام يمدّ يده إلى حديقة الحبّ، فيقع التعبير في أزمة وترخي السورياليّة بظلالها على الحروف: «لا يزعجني أن قصائد الحب التي أرسلها إليك / ترسلها أنت إلى حبيبة جديدة / إعادة إنتاج الطمأنينة / أن أعرف أنّك تحبّ». إنّها سورياليّة المشاعر من جديد، السورياليّة التي تسمّي الخيانة سبباً للطمأنينة...وواضح أنّ التونسي على امتداد نصّها تريد أن تقول أكثر من شيء، غير أنّ أشياءها مختلطة، وكأنّها تُخرِج ما في صندوق ما وضع فيه بفوضى. أجل، نصّها يبدو صندوق أفكار حميمة، لا رابط بينها إلاّ أنّها تخصّها، وتخصّها جدّاً.ويأتي النصّ الثاني في الكاتب «صحراوات»، وفيه تستمرّ التونسي مبحرة في ذاتها، ومن اللافت في النص المقاطع القصيرة التي يبدو كلّ مقطع منها نصّاً قائماً بذاته ولو لم يعتمر عنواناً خاصّاً: «أسمع صوت الحياة يغرّد في الخارج / من سيفتح لي الباب لأخرج منّي؟» و»أبحث عن فراشة صغيرة / لأقتلها بيدي وأتعرّف على الرّقة» و»طفولتي بلا صور / كأنّي لم أكن»... ولا يغيب الحزن عن صحراوات التونسي، لا سيما الحزن الذي يمدّه الرّجل ظلاًّ لامرأة ويوصيه بعدّ النسيم الداخل إلى رئتيها. والشاعرة في حَرَم أحزانها تتهيّب وتخشع: «لا أعرف أسباب حزني تماماً لكنّي أقدّرها كالفرح». وكذلك هي في حَرَم الفقر الذي كان، في حين أنّها اليوم ملكة في قصر، غير أنّ هذه الملكة يسكنها ألم اللصّ: «أسكن في بيوت الأغنياء / لكنّي أتعذّب كلصّ».وللحبّ وحده تغفر التونسي، وتبارك جرائمه التي تساعدها على الحياة، وها هي تقبل البعث مشروطاً: «لا أريد أن أُبعث من جديد، إلاّ إذا كنت أنت هناك واقفاً تنتظر».