كان والدي في آخر أيام عمره يقضي أغلب وقته في البيت وحيدا في انتظار زيارتنا له، يتنقل بين نشرات الأخبار الإذاعية أو التلفزيونية، ومن المؤكد أنه كان يعيش وحدة داخلية فيما بينه وبين نفسه كنت استشعرها، لكنه لا يعلنها ولا يصرح بها، وفي احدى المرات شعرت أنه ضجر فسألته لم لا يخرج ليزور أصدقاءه؟ فقال يا بنتي كلهم ماتوا أو ما عادت ذاكرتهم تتذكر.

Ad

كلام والدي يرن في رأسي كلما شعرت بالوحدة التي تجعلني أتساءل: هل سأشعر بوجعها بمثل ما شعر بها والدي لو أطال الله بعمري مثله؟

الجواب سيكون لا فالوضع تغير ما بين زمني وزمن والدي بمعطيات كثيرة مثل ازدياد انغماس جيلي في العمل بحيث لم يعد هناك وقت حقيقي للتقاعد، فالأعمال لا تنتهي ولا تقتصر على زمن الوظيفة فقط فهي مستمرة بأعمال حرة وواجبات أسرية لا تنتهي، خاصة مع عمل الأبناء في البنوك والقطاع الحكومي والخاص الذي يعمل بنظام الشركات التي تلتهم النهار كله مما يجعل مسؤولية أعباء حياتهم تقع على آبائهم، والآباء يعيشون دورة حياتهم من جديد، إلى جانب أن طبيعة الأعمال اختلفت وبات الجانب الإبداعي فيها أوسع وأكبر ولا يقتصر على فترة زمنية محددة ولا سن معين.

ولعل أهم ما دخل حياة جيلي هو وجود العالم الإلكتروني الذي بعث حيوات وانشغالات حيوية لا حصر لها، وشبكات للتواصل الجماعي ربطت بينهم وبين أفراد منتشرين في قارات العالم الخمس مما أوجد نشاطا وحياة لا تترك مجالا للشعور بالوحدة أو العزلة أو الفراغ، فشبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر وانستغرام والفايبر والتانغو وغيرها لم تدع لأي مخلوق فرصة أن يدعي أنه وحيد أو منعزل في عالمه، فعالم الوحدة أو العزلة بمعناه المطلق لم يعد له وجود، لأن حياة البشر في هذا الزمن أصبحت مخترقة بمعنى الكلمة مكشوفة وواضحة ومعروفة، وحتى حركة سيره معلومة منذ أن يستيقظ وحتى يذهب إلى فراشه من جديد، وعلى هذا أصبحت حياة إنسان هذا العصر أكثر انشغالا وأكثر ارتباطا بالعلاقات وأقل شعورا بالوحدة.

ومن هذه النقطة أستطيع أن أقول اني لن أعاني ما عاناه والدي من وحدة وعزلة نفسية حين فقد أصدقاءه واحدا بعد الآخر، فانا في زمن يمنحني فرصة عظيمة للتواصل مع أصدقاء منتشرين حول العالم كله، لا يتطلب التواصل معهم أكثر من ضغطة اصبع على جهاز الكمبيوتر أو الموبايل تمنحني فرصة التحدث معهم ومعرفة أخبارهم وماذا يعملون الآن، من دون الحاجة إلى تحديد مواعيد وضبطها وعناء الذهاب والإياب. كبسة زر تمكنني من التواصل معهم والتحاور والنقاش إن أحببت ذلك، أو الاكتفاء بمتابعة آخر إنتاجاتهم وإبداعاتهم وما يقومون به من أنشطة، خاصة أن الأصدقاء الذين نتواصل معهم على شبكات الإنترنت هم اختيار يتناسب مع شكل وطبيعة واهتمام كل فرد على حدة، مما يجعل هذا التواصل أكثر ثراء ومتعة، لأنه متوافق مع اهتمامه وطريقة تفكيره وتوجهه.

فبمجرد ما أشعر بالفراغ إن حصل ذلك وهو أمر نادر أو أن أحس بالوحدة وهو الشائع، افتح "فيسبوك" وفي لحظة أجدني في صحبة مجموعة من مبدعي العالم وآخر إبداعاتهم من فنون تشكيلية وشعر وبوستات فكرية وصورهم وحياتهم وآخر أخبارهم وما يفعلونه الآن، فأتنقل بينهم، وبلحظات أشعر أن وحدتي تلاشت وأني بت في حضن العالم كله وأن الحياة تصطخب وتموج بالرفقة والمشاركة العقلية والروحية والتبادل الأدبي والفني والثقافي والسياسي والاجتماعي وآخر تطورات الأوضاع العربية والعالمية من وجهة نظر أهم مفكريها ومبدعيها ومحلليها.

من أحب شبكات التواصل إلى قلبي والأقرب إلى طبيعتي "فيسبوك"، ومع أنه لي حسابات فيها كلها إلا إني أميل إلى "فيسبوك" أكثر من غيره، فهو الأكثر جدية والأعمق في طرح أفكار من يتواصلون عبره، وبعيد عن الترويج الدعائي للمنتجات والمستحضرات والافتتاحات الترويجية الاستهلاكية، وحتى بعيدا عن استعراض المظاهر الإعلانية والحياتية، ولا أدري إن كانت صفحات الآخرين في "فيسبوك" تمتلك صفات غير تلك التي أتواصل فيها، لكن تبقى شبكات التواصل الاجتماعي هي القفزة العظيمة التي قضت على الفراغ والعزلة والوحدة.