في روايتها (حذاء أسود على الرصيف) الصادرة عن «دائرة الثقافة والإعلام» في إمارة الشارقة، والحاصلة على جائزة الشارقة للإبداع العربي، 2012، تبدو الروائية والكاتبة الصحافية الكويتية باسمة العنزي منحازة تماماً إلى الهم الإنساني، وتبدو الرواية في حديثها عن مؤسسة أو شركة اقتصادية كويتية كبيرة، قادرة على خلق المعادل الفني الاجتماعي لأن تكون صورة هذه الشركة بعوالمها المختلفة هي صورة مصغرة للمجتمع الكويتي.

Ad

إن المتابع لمسيرة باسمة العنزي منذ صدور كتابها الأول (الأشياء) وتالياً «حياة صغيرة خالية من الأحداث» والتي نالت عليه «جائزة الدولة التشجيعية» عن فرع القصة القصيرة، وأخيراً كتابها «يغلق الباب على ضجر»، يرصد اجتهادها الواضح في تطوير تجربتها الإبداعية الكتابية، إن على مستوى أدواتها الفنية، أو على مستوى فهمها لدور الفن الاجتماعي، وأخيراً على مستوى المفردة والجملة والعبارة.

«حذاء أسود على الرصيف» تنبّه القارئ منذ الصفحات الأولى، إلى أنه أمام نصٍ مشغول بحرفية اللغة، وأن الكاتبة تمتلك عيناً ثاقبة تنظر من خلالها إلى ما خلف الحدث، والسلوك الإنساني، وبالتالي تأتي جملتها حاملة لأكثر من دلالة: «العاملون البادئون يومهم بالقليل من الاندفاع والحماسة، أولئك المصلوبون على جذع الاعتيادية الطويل، المتدفق زمنهم داخل مكعبات الزجاج الأنيقة، المنذورون لانتظار ما هو أكذب من الأمل، وما هو أقرب للعدالة، يجمعهم الحلم بعصا التغيير السحرية» ص9.

روايات «نسوية» كويتية وعربية كثيرة غرقت في بحر البوح الشخصي والحميمي ومغامرات وقصص الحب، لكن باسمة العنزي، استطاعت بحذق أن تنأى بنفسها عن ذلك، وأن تخرج بروايتها إلى شواطئ أخرى، تتخذ من رصد عوالم وعلاقات وبيئة العمل في شركة اقتصادية كبيرة موضوعاً لها. علماً بأن حضور المكان الكويتي بتفاصيله الحقيقية كبيئة حاضنة للعمل، أعطى الرواية نكهة جمالية واضحة، خاصة وغياب المكان عن عدد كبير من الأعمال القصصية والروائية الكويتية.

  باسمة العنزي، وعلى لسان الراوي العليم، تقدم للقارئ عوالم الشركة من خلال وقوفها أمام نماذج لموظفي هذه الشركة، بدءاً بالمالك وانتهاء بعمال حفظ الأمن. وهي إذ تقدم هذه النماذج فإنها تخلق عالماً موازياً للمجتمع الكويتي بمختلف أطيافه. فمن شخصية مالك الشركة الذي ينتمي لعائلة عريقة تحلّق في سماء الكويت بجناحي الاقتصاد والسياسة، العاشق للخيول العربية الأصيلة. إلى مدير عام الشركة الذي يديرها بذكائه وكاريزما شخصيته القيادية. إلى «أمواج» السكرتيرة التنفيذية الجميلة، إلى «جهاد» المرأة الفلسطينية البائسة، مروراً ب «زيد» «المهرّج العصري» وانتهاء بـ»مهدي» الشاب «البدون» الذي يغذي أحلام حياته بأمل الوصول إلى طيف «أمواج». لكن باسمة في كل تناولها لعوالم هذه الشخصيات، كانت بارعة في تعرية هواجس هذه الشخصيات في محطات طموحها الإنساني المشروع، وفي دروب سعيها للوصول إلى تحقيق حلمها، لكنها في المقابل كانت مخلصة في انحيازها إلى الوجع الإنساني، وخاصة لحالة المرأة الفلسطينية جهاد. والشاب البدون. ولا تغيب الدلالة في اختيار عنوان الرواية مرتبطاً بمشهد موت جهاد، وتصادف ذلك مع مرور المدير العام بسيارته الفارهة أمام المشهد دون أن يرف له جفن، منشغلاً بسماع الموسيقى.

مدارس نقدية كثيرة لا تحبذ وجود الراوي العليم، وأنا أحمل وجهة النظر نفسها حيال تحسسي لوجود الراوي العليم، وأظن أن رواية باسمة كانت ستكون أكثر دفئاً ووصولاً للقارئ لو أنها تركت لشخصياتها أن تعبر عن نفسها بلسانها لا بلسان الراوي.

ربما يقرأ البعض رواية باسمة العنزي بوصفها رصداً لبيئة شركة كويتية بعينها، لكنني أرى فيها استنطاقاً دالاً وموحياً لعوالم المجتمع الكويتي بمختلف شرائحه، بوعي إنساني يبعث على الاحترام، وصدق فني عالٍ.