الحمد الله أني تأخرت جداً في قراءة رواية «الحارس في حقل الشوفان» للكاتب الأميركي الشهير «غيروم دافيد سالنغر» وإلا كنت قد فقدت فطرتي وعفويتي في الكتابة، فكتابته معدية أي انها تصيب قارءها بفيروساتها، فتنقل إليه أسلوب سالنغر وطريقته في كتابته بسبب قوة بثها وتأثير ذبذباتها الإبداعية على قارئها، وسأنقل جملة الشاعر والمترجم «بسام حجار» الذي يقول فيها: «سالنغر من طينة الكتاب الذين حين تكون قرأت لهم، لا تعود كما كنت تقرأ في السابق، لأنه في أية حال، من الأطياف التي تترك أثرا مقلقا».

Ad

رواية بالفعل لا تترك القارئ من دون أن تتعلق وتتشبث بروحه وإحساسه من قوة انفعال الأحاسيس الحية المبثوثة بها، فهي رواية اختزنت طوفان التغيرات الهرمونية وعنفوانها التي تجتاح سن المراهقة لدى هذا الصبي المراهق الذي هو بطبيعة الحال الكاتب ذاته، الذي كتبتها شبكة وخلايا أعصابه التي عاشت فورانها وطيشها وغضبها ورفضها وتمردها لكل ما هو زائف فيما حولها، واستطاع أن يفرغها في لغة عنيفة غريبة ساخرة وساحرة، مليئة بالشتائم واليأس والقنوط التام، لغة متميزة بفرادة غير عادية، محيرة ونافضة ورافضة لكل ما هو معتاد وعادي، تسير خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف تتقدم وتتراجع بمثل تفكير صاحبها، وليس بإمكان أحد أن يقلدها من دون أن يُكتشف منها مصدرها المسروق، فهي لغة حملت بصمة روح صاحبها وإلى الأبد.

إنها الرواية الفذة التي استطاعت وتمكنت من الغوص في أعماق شخصية الفتى المراهق بكل هفواتها ونزقها وطيشها وحيرتها في عالم تخوضه بمفهومها الخاص المضبب بغشاوة استيهاماته ومنطق اعتبارات وعرة لها قدرة هائلة على تبشيع وتشويه كل ما يشاهده ويدور من حوله، سواء كان سلوك الناس أو أداء مسرحيا أو سينمائيا أو أدبيا، كل ما حوله يخضع لمهرسة الفرم النقدي والسخرية اللاذعة والاستهزاء والتذمر من كل شيء، مما ينحت شخصية المراهق المزعج المستفز الذي لا يعجبه العجب ومحير الجميع في سلوكه.

الرواية كلها تدور على لسان بطلها المراهق، في تقنية منسابة بسيطة لكنها مليئة بحيوية ونبض حياة متدفقة بمشاعر متناقضة ومتنافرة في آن واحد، انعكست في طريقة حوارات غريبة مدهشة، تعيد على نفسها تكرارها ذاتها بطريقة مختلفة، فما يقوله أو يتساءل به يُعيد طرحه بتكرار ما قاله بصيغة أخرى.

الرواية لا تحمل أحداثا أو سيرا لشخصيات عظيمة في تركيبات وبناء تقني صعب أو معقد، بل هي عكس ذلك كله، فهي انسياب بسيط يتماهى مع روح وشخصية صبيانية أقرب إلى الطفولة من عالم الكبار، وهذا هو سر قوتها وتفوقها في هذه القدرة الهائلة التي تمكنت من رصد ونحت وتقمص روح الفتى المراهق في قمة مأزقها التحولي.

وهذا مقطع من الرواية يبين طريقة تفكير الفتى المراهق وأسلوبه المشاكس وهو الشكل التهكمي الذي قام عليه بناء الرواية كلها «ومضت سالي تردد: «هذا الفتى رأيته في مكان ما»، وهي دائما تتعرف على بعض الناس أو تظن ذلك في كل مكان تصحبها إليه. واستمرت تردد ذلك حتى سئمت، فقلت لها: «ما دمت تعرفينه لماذا لا تذهبين إليه وتقبلينه قبلة كبيرة. سوف يفرح بذلك». غضبت لقولي. وفي النهاية رآها الأحمق وجاء إليها وحياها. كان عليك أن تراهما وكل منهما يحيي الآخر، سيخيل إليك أنهما لم يريا بعضهما منذ عشرين عاما وأنهما كانا يستحمان في بانيو واحد عندما كانا طفلين. صديقان حميمان. كان ذلك مثيرا للغثيان بالفعل والمضحك أنهما ربما تقابلا مرة واحدة في حفلة تافهة».

أظن ان تقديم أي مقتطع من هذه الرواية لا يفيها حقها، لأنه من الصعب الإلمام بها إلا بقراءتها بشكل مركز وكامل، فعلى الرغم من بساطة أسلوبها وتقنيتها فإنه لا يمكن فهمها إلا بهضم شخصية بطلها وفهم تصرفاته.

وفي نصيحة أستاذه فتح له باب النضج حين قال:» أعتقد أنك في يوم ما ستجد طريقك، وعند ذلك عليك أن تبدأ السير فيها، وعليك أن تبدأ في الحال، فلن تجد دقيقة واحدة تضيعها، أنت بالذات سوف تبدأ في الحال».