فجر يوم جديد: {نهاية رحلة}
في ظني أن المخرج الشاب أمير رمسيس استجاب لنصيحة المقربين منه، والعشرات من النقاد، ممن رأوا أن فيلمه السابق {عن يهود مصر} لا يخلو من مراهقة فكرية، ويذخر بكثير من المغالطات التي تعكس نوعاً من تراجع الوعي السياسي، فضلاً عن الانحياز غير المبرر إلى القضية المطروحة، ومن ثم لجأ في فيلم {نهاية رحلة}، الذي يُعد الجزء الثاني من فيلم {عن يهود مصر}، إلى تصحيح مساره، والابتعاد عن كل ما يضعه في موقف حرج أو يكشف عدم إلمامه بجوانب الموضوع الذي اختاره.أدرك رمسيس أن العاطفة أقوى سلاح للتغلغل إلى أفئدة الجمهور الذي يُشاهد فيلمه، فما كان منه سوى أن حشد كل ما يملك من عتاد سينمائي لينتصر لقضيته، التي أراد من خلالها إلقاء الضوء على علاقة يهود مصر بالوطن الأم، وفي حين ارتكب أخطاء فادحة في الجزء الأول، على رأسها اقتصار شهاداته على نفر من اليهود {الأخيار} أبناء الطبقة المُترفة، التي يملك أبناؤها قدراً كبيراً من الثقافة، والوعي، وسعة الأفق، والتسامح، ممن زعم أنهم {ضحايا} أجبروا، بفعل الظرف التاريخي، والقصف الناصري، وحالة العداء التي تنامت ضدهم، بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، والعدوان الثلاثي على مصر العام 1956، على مغادرة مصر لكنها {ما زالت في خاطرهم}، وكلهم في انتظار اللحظة التي يعودون فيها إلى مصر بشرط استعادة حقوقهم التاريخية من ممتلكات وعقارات!
هكذا فعل في الجزء الأول، وكما هو متوقع أثار فيلم {عن يهود مصر}، بعد عرضه، كثيراً من الجدل حول السر وراء اختيار هذه القضية على وجه التحديد، ومغزى طرحها على الرأي العام في هذا التوقيت، وبدلاً من أن يكتفي المخرج الشاب بما أثاره من جدل، اتجه إلى صنع الجزء الثاني، الذي واصل من خلاله تكريس التعاطف مع اليهود، عبر الإيحاء بأنهم {أبناء مصر}، الذين لم يهجروها البتة، سواء إلى إسرائيل أو أوروبا؛ حيث التقى أبناء الجالية اليهودية في مصر، ممن لم يتجاوز عددهم الاثنتي عشرة امرأة، غالبيتهن طاعنات في السن، وتحدث معهن، بلسان {ماجدة} و}نادية} رئيس ونائب الطائفة اليهودية في مصر؛ حيث نوهتا إلى والدهما المحامي اليهودي الشيوعي الراحل شحاتة هارون، الذي رفض السفر خارج مصر بمجرد علمه أن هذا يعني، حسب القوانين المعمول بها في عهد عبد الناصر، ألا يعود إليها ثانية. كذلك شددتا على أنهما لم تشعرا يوماً بالغربة في مصر، رغم ما تعرضت له العائلة من قسوة بالغة تمثلت في رفض {النظام الناصري} الموافقة على سفر والدهما لعلاج شقيقتهما في الخارج، وكانت النتيجة أن تدهورت صحتها ولفظت أنفاسها الأخيرة! في فيلمه السابق نجح المخرج الشاب في اختيار شخصيات تملك الكثير من {الكاريزما»، وهو ما تكرر بالضبط في «نهاية رحلة»، فالسيدة ماجدة هارون، وشقيقتها، ملكتا المشاهد بقصصهما الجذابة، التي لا تخلو من مغزى ورسالة لمن يهمه الأمر؛ خصوصاً عندما وصفت «ماجدة» بقايا اليهود في مصر بأنهم «ديناصورات» على وشك الاندثار، وناشدت مصر، حكومة وشعباً، بضرورة الحفاظ على التراث اليهودي في مصر، وإعادة إحياء المعابد اليهودية وترميمها، ولو أدى الأمر إلى استغلالها كقاعات لإنشاد الترانيم القبطية وتلاوة القرآن!حرص «رمسيس» على ألا يغرق حتى أذنيه في السياسة، مثلما فعل في الجزء الأول، لكنه لم يتخل عن حشد أسلحته العاطفية لإقناع المشاهد بضرورة التعاطف مع هذه الحفنة، كنوع من التكفير عما ارتكب في حقهم سابقاً؛ فمن مشهد إلى آخر يمتدح هوية وأصالة المجتمع المصري، الذي تحمل واجبه كاملاً تجاه الشرذمة اليهودية التي آثرت البقاء في مصر، وترك للسيدة «ماجدة» وشقيقتها تأكيد هذا المعنى، عبر شهادات تُثني على الشعب المصري الذي يتحلى بالتسامح وقبول الآخر؛ مثلما فعل عندما احتضن الفتاتين اليهوديتين اللتين تملكهما الرعب خشية الانتقام منهما في أعقاب هزيمة يونيو/ حزيران 1967، وهو ما تكرر بصورة أكثر وعياً عندما أمن لهما سبل العيش في فترة اعتقال والدهما المحامي الشهير قبل الإفراج عنه بقرار من عبد الناصر.في «نهاية رحلة»، الذي يبدو وكأنه قصيدة رثاء ليهود مصر، تراجعت اللغة السينمائية في ظل طغيان العاطفة، وبدا المخرج وكأنه مجرد «مُسجل» لما يدور من حوله ليس أكثر، بل إنه ضيع على فيلمه وعلينا، توظيف وثيقة تاريخية نادرة وجهها شحاتة هارون إلى الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، ولم ينوه إليها أو يسأل ابنتيه عن مناسبتها، وجاءت الموسيقى باهتة وشاحبة بينما كان بمقدوره أن يستوحي الموسيقى اليهودية أو موسيقى المعابد ليصنع للفيلم خصوصية وهوية. غير أن ما يُحسب لهذا الجزء نجاحه في حشد التعاطف مع بطلاته، والإيحاء بأنهن «أبرياء»!