باب الليل هي أول رواية اقرأها للكاتب المصري وحيد الطويلة، الذي كشف لي عن جانب لم أنتبه إليه ولم ألاحظه من قبل، ألا وهو حياة المقاهي وما يدور فيها من أدوار تعتلي مسرحها أناس باتت لهم دينهم ودنياهم.

Ad

"دنيا المقاهي" رواية أبطالها رواد المقهى ذاتهم الذين يحتلون طاولات وأركان مرسومة لهم، لهذه الشخصيات الغريبة المحملة بآلامها وأحلامها، بانتصاراتها وهزائمها، بصولاتها وجولاتها، إحباطاتها وهزائمها، وبحثها الدائم عن فريسة تفترسها أو غنائم تحصدها، أو مجرد هدرها لعمر ووقت خائف ومتردد من زمن كاسح لا يعبأ بها، ولا يكترث بهزائمها وحياتها العابرة الممحوة، التي اقتنصتها عين مراقبة لغواص ماهر امتصت تضاريسها ومعالمها وتكوينها النفسي والحسي والعقلي، وكل شاردة وواردة منها، اصطادها بشبكة وعيه التي أبدعت في إعادة خلقها وبث نبضها في حياة أخرى مرسومة بدقة خلدتها على الورق.

وحيد الطويلة أبدع في نحتها إن لم يكن لها وجود حقيقي في واقعها، ويكون قد أجاد تصويرها لو كان وجودها حقيقياً في المقهى الذي ضم كل هذه الشخصيات المنحرفة في فساد خلقي وروحي وجسدي، ولكل منها مبررات انحرافاته وانجرافاته في حياة الضلال التي تدور وتتحرك فوق مسارح المقاهي التي لا أدري ما نوعيتها، وهل هي مواخير لعالم الليل ومن يغشونه، أم انها بالفعل هي رصد حقيقي لعالم أدركه كاتب خالطها وعاش تفاصيلها حتى النخاع؟

هذه رواية بلا شك ذكورية 100% تحكي عن عالم الذكور، وترصد أحاسيسهم الجنسية التي يحركها عالم الليل بمخلوقاته الباحثة عن مصلها الليلي.

الرواية تدور أحداثها في المقاهي التونسية في الفترة التي عاش كاتبها في تونس، وأبطالها يبدو أنهم من لحم ودم حقيقي، فهي ترصد الفترة التي عاد فيها بعض رجال المنظمة الفلسطينية إلى بلادهم، بعد أن بقوا أعواما في ضيافة تونس، وبقي بعضهم لعدم سماح إسرائيل لهم بالعودة، مما جعلهم يتواجدون في المقاهي بشكل دائم انتظارا لما لن يأتي ولما لن يجيء، ومن هؤلاء تأتي شخصية أبوشندي المناضل مع الكوادر الكبيرة التي تخلت عنه، وخميس برجنيف نموذج ممتاز لمناضلي المقاهي الكبار، إلى جانب أبوجعفر رجل المخابرات الذي يدون مذكراته عن الثورة الفلسطينية، والفترة التي عاشها في العراق وجعلته مجنونا بعشق صدام حسين، وهناك إلى جانبهم تلعب شخصيات أخرى مثل مهدي المسيحي الذي يحلم بأن يعمل مع المارينز، وأيضا غسان السوري جاسوس ومدمن إجرام، والمنجي إمام المسجد وشيخ الأمن المخبر، ومجيد اللبناني الموعود بأن يكون سفيرا، وشادي فاروق وإنجرام ومحمد كازنوفا، هذا إلى جانب شخصيات لنساء هن قمة للسحر والأنوثة، مثل درة صاحبة المقهى اللاعبة بالمشاعر وبمصائر الرجال، تتبعها ألفة التي لا تعترف بغير النقود دينا، ولا يرتوي ظمأ جسدها من سغب، وباربي الصحافية الكاتبة بالقطعة "المتلقطة" لشباب المقهى الصغار، ونعيمة التونسية التي سرقت منها أختها حبيبها الألماني، وحلومة المرأة المثلية الحالمة بجواز سفر ينقلها إلى عوالم صداقتها عبر الإنترنت، وحبيبة مغنية المقهى المنتظرة لعقد عمل في مصر خالقة شهرة المطربين، هذا إلى جانب رحمة وألفة وغيرهم من شخوص عابرة لرواية مزدحمة بالحكايات لشخصيات غير عادية لمقاتلين ضائعين تشابكت حياتهم ومصائرهم في نسيج ألفت ووحدت في ما بينهم مقاه باتت هي أوطانهم وعناوين حياتهم.

"باب الليل" رواية يمتزج فيها الجنس بالسياسة، فكلاهما عاهران متشابهان متجانسان متفقان في تفاصيل تركيبة واحدة ممتدة من أساس بناء موحد، ويمكن أن يطلق على جنس هذه الروايات "جنسي سياسي" أو "سياسة الجنس"، وإن كنت أفضل الاسم الأول، فالجنس يسبق السياسة لكنه لا ينفصل عنها.

وحيد الطويلة أجاد اللعب في تراكيب اللغة الملغزة وتشبيهاتها وتأويلاتها وإسقاطاتها، فكل جملة تحيل إلى معنى آخر تأتي في صور رائعة، مثل الربط بين جسد المرأة والبندقية، وغيرها الكثير من الصور المدفونة في معان أعمق وأبعد من طبقتها الأولى، فوحيد الطويلة تمكن تماماً من التلاعب بلغة كتابته، فجاءت صورها لاذعة في سخريتها المقشرة لطبقات التأويل الثري المختلف والمكتنز في ثراء معناه الذي زاد من تكثيف متانة وقوة نسج الرواية التي قدمت للقارئ حياة لعوالم قد يجهلها، من خلال رصدها لأبواب الليل المتعددة.