قدمت حركة النهضة الإسلامية التونسية، صاحبة النسبة الأكثر تمثيلا في المجلس التأسيسي لصياغة الدستور، تنازلات "عميقة"، اعتبرت أكبر مما كانت ترجوه المعارضة، تحت تأثير الضربات المتلاحقة، التي تلقاها التيار الإسلامي، في بلد "المنشأ" مصر، بعدما أطاحت ثورة شعبية، دعمها الجيش، في 30 يونيو الماضي، بأول رئيس إسلامي "منتخب" في مصر، هو الإخواني محمد مرسي "محبوس".

Ad

واعتبرت الحركة نفسها، منذ اللحظة الأولى لاندلاع ثورات الربيع العربي، امتدادا طبيعيا لـ"الإخوان" في مصر، وحلمت بأن صعود إسلاميين في تونس ومصر، وبينهما ليبيا، يمكن أن يصنع ربيعا إسلاميا، إلى أن انهار الجزء الأكبر من الحلم، في مصر، فباتت الحركة أقرب إلى الأغلبية الأليفة، وظهر ذلك واضحا في سلسلة من "التنازلات"، قدمتها في مواد الدستور التونسي الجديد.   

ولأول مرة، منذ عقود طويلة، يتخلى التيار الإسلامي عن اقتراح ظل جزءا من أدبيات التيار الإسلامي، في الوطن العربي، وهو النص على أن "الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع"، ووفقا للفصل الأول من الدستور فإن "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، متجاوزا النص على أن الإسلام مصدر للتشريع.

ورغم انها مثلت الأغلبية في "المجلس التأسيسي" فإن حركة النهضة وافقت على كل الفصول التي تعلي من شأن مدنية الدولة وتضمن الحقوق والحريات، وبينها حرية المرأة، وحرية التظاهر، وحرية العمل النقابي، وحرية الضمير، وتجريم التكفير، بل ووصل الأمر إلى حد الموافقة على اختيار نظام الرئاسي المعدل، رغم ان مقترحها الأصلي كان اعتماد نظام "حكم برلماني"، وقد كافحت لإرساء هذا المقترح في المجلس التأسيسي طوال سنتين.

ولعل أبرز تنازل قدمته الحركة، جاء في "الفصل 6"، ويقول: "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي، يحجر التكفير والتحريض على العنف".

ويعتقد مراقبون ان التنازلات التي قدمتها الحركة، في كل المجالات، في الفترة الأخيرة، ضمن ما عرف بالحوار الوطني، جعلت منها الطرف الأضعف في أعين عدد من أنصارها، خصوصا ان "الفصل 30" من الدستور نص على أن "حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات"، وفي ضوء ما نعرفه عن التيار الإسلامي المتشدد، الذي لا يمكن أن يقبل فكرة عدم مراقبة الحريات الإعلامية، مثلا، تعتبر هذه المادة تنازلا صارخا من جانب الحركة.

وبينما حاولت "النهضة" الخروج منتصرة في مسألة استقلال القضاء، حيث أصر نوابها في البداية على عدم النص على استقلالية القضاء، صراحة في الدستور، وبعدما جادلت باقتراح ينص على إبقاء السلطة القضائية تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تنازلت الحركة مضطرة، تحت ضغط المعارضة والقضاء التونسي، لتخسر معركتها الأخيرة أيضا.

يذكر أن زعيم الحركة راشد الغنوشي حاول، في أحد تصريحاته الإعلامية، التخفيف من وقع التنازلات التي قدمتها الحركة وصارت حديث الناس في الوطن العربي، ليقول إنها في الطريق الصحيح، رغم كل ما قدمته من تنازلات، مشددا على أن الحركة ليست مهزومة، مادامت تونس هي الرابح الأول، مضيفا: "إن خسرنا السلطة، فإننا سنعود إليها، لكن إن خسرنا أمن تونس واستقرارها فستكون خسارة للجميع".

أبرز نصوص الحريات في الدستور التونسي

• تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها.

• الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي، يحجر التكفير والتحريض على العنف.

• المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز، تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم.

• تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها. تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات. تسعى الدولة إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة.

تتخذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة.

• الحق في الثقافة مضمون، وحرية الإبداع مضمونة، وتشجع الدولة الإبداع الثقافي وتدعم الثقافة الوطنية في تأصلها وتنوعها وتجددها، بما يكرس قيم التسامح ونبذ العنف والانفتاح على مختلف الثقافات والحوار بين الحضارات.

حالة توءمة سياسية

بعد عشرة أيام من الاستحقاق الدستوري في مصر استقرت تونس على دستورها الجديد، ظاهرة "التوأمة السياسية" لافتة منذ الإلهام التونسي في ثورة يناير المصرية، فما يجري في إحداهما يؤثر على الأخرى وينعكس في تفاعلاتها.

بدأت مصر رحلة دستورية طويلة ومنهكة بعد ثورتها أفضت إلى ارتباكات لا مثيل لها في بنيتي الدولة والمجتمع، عدلت بنودا في دستور ١٩٧١ الذي أقر على عهد الرئيس الأسبق "أنور السادات" في استفتاء ٣٠ مارس ٢٠١١، أفضى الاستفتاء بالأجواء التي صاحبته إلى انشقاق سياسي كبير بين التيارين المدني والإسلامي، والمثير أنه لم يتم الالتزام بنتائج الاستفتاء، لا الدستور عاد ولا النتائج احترمت، أجريت انتخابات نيابية بلا دستور ينظم العلاقات ما بين مؤسسات الدولة، البرلمان جرى حله تاليا بحكم من المحكمة الدستورية العليا، ثم أجريت الانتخابات الرئاسية بلا دستور يحدد صلاحيات الرئيس.. والرئيس ألغى فور انتخابه الإعلان الدستوري الذي سبق تنصيبه بأيام وبدت اللعبة كلها أقرب إلى مهزلة دستورية.

في الفوضى افتقد البلد بوصلته إلى مستقبله ودخلت الأطراف السياسية المتباينة في حرب على طبيعة الدولة بين تياريها الرئيسيين، تصورت جماعة "الإخوان المسلمين" من موقع السلطة أن بوسعها إقصاء الآخرين وفرض كلمتها على الدستور، بدا دستور 2012 الذي هيمنت الجماعة على جمعيته التأسيسية أقرب إلى مشروع دولة دينية رغم أنه ينطوي في بعض مواده على إنجازات لا يمكن إنكارها، في الاضطرابات السياسية تقوضت صورة الجماعة في الشارع المصري، سعت إدارتها غير الكفؤة إلى "التكويش" على الدولة واتسعت فجوات الكراهية معها، أنكرت حقائق مجتمعها وعلى رأسها تنوعه السياسي والفكري والميل العام إلى الوسطية، فالمصري العادي متدين لكنه يأبى التشدد، راهنت الجماعة أن تكسب كل شيء أو أن تخسر كل شيء، فلحقت بها أكبر هزائمها منذ تأسيسها عام ١٩٢٨.

بعد المد الثوري الجديد في ٣٠ يونيو ٢٠١٣ وانحياز الجيش للإرادة الشعبية أعادت خريطة المستقبل ترتيب الاستحقاقات من جديد، تصدرت الخريطة الجديدة قضية "الدستور أولا".. قبل أية انتخابات رئاسية وبرلمانية... وهو تصحيح جراحي لازم لتلاعب مكلف في استحقاقات التحول الديمقراطي، شُكلت لجنة اكتسبت اسمها من عددها: "لجنة الخمسين" لإعداد وثيقة دستورية جديدة قبل عرضها على الاستفتاء العام ترأسها أمين عام الجامعة العربية السابق "عمرو موسى"، عينت اللجنة بقرار رئاسي من المستشار "عدلي منصور" مراعية التنوع المجتمعي الواسع وتمثيلها لكل الأطياف السياسية والدينية غير أن منتجها الدستوري اكتسب شرعيته من الاستفتاء عليه ونسب الإقبال الاستثنائية على صناديق اقتراع.

رغم تعثرات اللجنة فإنها تمكنت خلال شهرين من التوصل إلى منتج دستوري يؤسس مجمله لدولة مدنية ديمقراطية حديثة.

التوجه ذاته تضمنه الدستور التونسي بصياغات أحسن في مدنية الدولة وأقل في قضية العدالة الاجتماعية.

التجاذبات السياسية عطلت احتمالات التوافق الوطني التونسي لما يقارب ثلاث سنوات على دستور جديد، والدساتير بطبيعتها مسألة توافق قبل أي شيء آخر.

سؤال طبيعة الدولة كان هو العقبة الكبرى أمام احتمالات التوافق في كلا البلدين.

لم تكن هناك مشكلة في مصر على أي نحو في إقرار المادة الثانية من دستور ١٩٧١ التي تنص على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، فالقوى المدنية تؤيد والكنيسة المصرية لا تمانع والمصريون العاديون يطلبون النص بحذافيره... بينما في تونس بخلفية تجربتها "العلمانية" على عهد رئيسها الأسبق "الحبيب بورقيبة" دعا نص مشابه إلى القلق والتساؤل: إلى أية دولة نحن ذاهبون؟

في مصر تبدت خشية "الدولة الدينية" من المادة ٢١٩ التي أقحمت في اللحظات الأخيرة على دستور ٢٠١٢ وتنص على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة مذاهب أهل السنة والجماعة"، الدستور في مجمله شابت صياغته مخاوف من أن يؤسس لدولة دينية، فالعبارات غير منضبطة، وتأويلها يفتح الباب واسعا لأكثر الاجتهادات الفقهية تشددا.

النهاية المأساوية لحكم جماعة "الإخوان" دعت نظيرتها حركة "النهضة" التونسية إلى استيعاب الدرس القاسي فأبدت مرونة افتقدتها الجماعة الأم وسحبت أية نصوص سبق أن قدمتها تعتمد "الإسلام مصدرا للتشريع" رغم أن النص نفسه أقل وضوحا مما استقر في الدساتير المصرية.

الإسهاب التفصيلي في الدستورين يومئ  إلى فجوات ثقة وأزمات مجتمعية وسعى إلى شيء من التوافق على أدق التفاصيل التي ليس من شأن الدساتير الخوض فيها.

وفي الدستورين مواد تناهض العنف والتحريض على الكراهية فكل من البلدين يعانى بفداحة من تبعات اللعبات الخطرة.

في قضية العدالة الاجتماعية بدا الدستور المصري أكثر وضوحا والتزاما من نظيره التونسي.

في الحالتين المصرية والتونسية بدا الدستوران أقرب إلى العصر وقيمه الرئيسية.

في التجربتين فإن الحياة السياسية والحزبية على قدر من السيولة والضعف النسبي ومركز الثقل في التفاعلات خارجها، وبينما لعبت النقابات التونسية دورا جوهريا في الإعداد للتوافق الدستوري ومنازعة "النهضة" نفوذها فإن النقابات المصرية افتقدت الدرجة ذاتها من الحضور والتأثير.

في تونس حديث عن هدنة مجتمعية بينما يصعب الكلام بذات اللهجة في مصر التي تعاني حربا ضارية مع الإرهاب وانفلات الجماعة الأم وافتقادها الفادح لأية درجة من الرشد السياسي.

بصورة ما فإن هناك فرقا جوهريا بين جماعتين، فالإخوان في مصر أقل انفتاحا والبنية الفكرية لمنتسبيها أقرب إلى السلفية المتشددة، بينما "النهضة" في تونس منفتحة نسبيا على عالمها وحقائق مجتمعها وأكثر براغماتية، فضلا عن أنها لا تود أن تلقى مصير الجماعة الأم.