تضمن الكتاب الأول للمؤلف إبراهيم عزيز «الألف الأعرج وحب أبجدي» مجموعة نصوص إبداعية، منها ما يتقاطع مع السرد أو ينسجم مع قصيدة النثر.

Ad

اتكأ الكاتب إبراهيم عزيز على «ألفه الأعرج» متسلحاً «بحب أبجدي»، مقدما حكايات حافلة بالترميز وتئن من تكرار الترحال، ويرصد مشاهد استوحاها من الخيال المكتنز بالأسطورة والمدعم بثقافة ثرية ومخزون معرفي كبير.

يمزج إبراهيم في إصدار «الألف الأعرج وحب أبجدي» بين الحكايات الأسطورية والواقع المؤلم الذي يعيشه الإنسان، سارداً خواطر تتضمن ترميزا لبعض المشكلات التي يعيشها الفرد، ويقتبس بعض الأسماء والأماكن التي تحمل دلالات كثيرة.

ويلمح المتلقي استشراء تعدد الفرضيات في العمل، وكذلك ضبابية بعض الأمور وعدم وضوحها، رغبة من الكاتب في إيصال مشروعية الحلم، بينما هذا الطموح لا يعني بلوغه، فهناك أمور كوابيس ترعب الإنسان وتعكر صفو منامه.

ويركز الكاتب على مظاهر الحياة خلال نصه الافتتاحي «من ذاكرة الزاوية اليسرى»، فيرصد غيابها في بداية النص، إذ الرياح تعصف في ردهات البيت فتهشمت ألواح الخشب العتيق، وتآكلت قبضته النحاسية، وتكسرت أطراف الدرج الذي يؤدي إليه.

ويرصد في القسم الثاني من النص هذه المظاهر على النحو التالي: «تنهدت الكراسي وأيقظت الرياح بقايا السنين، وعادت الحياة تدب ثانية في أرجاء المنزل، الأطفال يحْبون، والجدة تجلس على الأريكة وأخبار الصباح تنهمر من المطبخ، ومياه البئر تسقي أشجار النخيل».

ثم ينتقل الكاتب إلى فصل الخريف، حيث تسكن رائحة الكراريس الجديدة في أحضان الحقائب، هناك فوق الطاولة الصغيرة طبق من التمور، ومن المطبخ تتسلل خيوط رائحة كعك العيد، والجدة تهمس في أذن الصغير: «عيد سعيد» فوق الجدران رسمت الصغيرة بيوتا بالطباشير وعلّق هو خيوط الزينة.

بداية ونهاية

وعقب تأرجح بين الفصول وتحديد ملامح كل فصل على حدة، تملأ رائحة البلح الباحة، وتتساقط حباته تحت ساق النخلة الطويلة، بينما صوت الجدة يرن في أرجاء المنزل: «حذار أن تطأ أقدامكم البلح»، جميعهم يتمشون في أرجاء الباحة، يأكلون البلح، والصغير لم يعد صغيرا فقد رحلت الساعة بين ممرات السنين، وخطفت الفصول ألوان الصبا، يتضمن هذا الجزء ترميزا دقيقا لبداية حياة ونهاية أخرى، وكذلك يركز الكاتب على تمرد الصغار ورفضهم الوصاية، بينما تمثل الجدة في الحكاية صوت الحكمة.

وضمن جزء آخر من العمل، وتحديدا في التمهيد لأربعة نصوص تحمل العناوين التالية: الجدران والرمال والأحلام وبعد، يسرد رغبات مشروعة للجميع وفق معطيات العدالة والمساواة، وفي الوقت ذاته يركز على حقيقة الانتماء إلى الوطن، سورن الرجل الذي يرتحل مع أهل قبيلته التي تعيش خارج الجدران، ويسكنون في أي بقعة على الأرض لا تعرف سماؤها إلا ألوان الشمس والقمر، ولا يعرفون فيها إلا الأمان.

إنسان

تتقاطع حكايات الكاتب مع الأسطورة، مدعما عمله بمعطيات حديثة تتضمن ترميزا لقصص منتقاة من الواقع، وبطله سورن يشبه العظماء في بنيته فهو عريض المنكبين مفتول العضلات كأنه فارس روماني أو عاشق فينيقي أو سيد لقصر.

ويمضي الكاتب في سرد الأوصاف لسورن، لكنه يوضح أنه لم يكن كل هذا ثم يشير إلى أن سورن يعمل في المدينة حارسا، يعمل طبيباً، يدرس الفلك ويعشق الفلسفة. يهدف الكاتب إلى إيصال فكرة للقارئ أن سورن لا يمثل نفسه فقط بل ثمة شريحة كبيرة تشبهه، وتتقاطع معاناته مع مشكلاتهم.

ويعقد سورن العزم على الرحيل إلى مكان آخر فقد خنقته الجدران والأسوار، فهو لم يسكن في الجدران منذ ولد، ولم ينم بين الجدران، ولم يعبر سور الصين متسلقا، فسورن قتلته الجدران، هذا ما كان يهتف به أهل المدينة عندما علموا بخبر اختفائه.

تقول مريم: «كان يصرخ ويهمس وهو نائم»، سورن اعتاد أن يحكي لمريم عن أحلامه، مريم تملأ الكون بكاء حزنا على غيابه، وتقرر بدء رحلة البحث عن سورن، ذهبت إلى ابن نور الشيخ المشهور بالحكمة والمعرفة بين أهل مدينته، وتخبره جئتك ابحث عن جسد تاه من بين الجدران سرقته التي تسرق الأجساد، أخذته من بين الجدران، تركت لي جرحا بداخلي، تركت بكاء يملأ المدن كلها، كأنه سرب من حمام مهاجر من كوكب آخر، كوكب أبعد من الشمس، كوكب أقرب من الشمس، فأين هو سورن يا ابن نور وهل رحل مع كنوس؟ يرد عليها ابن نور: سورن رحل إلى «كنوس» اختفى من بين الجدران، لم أر ذلك في حلم أو أعرفه من ضرب المندل، سورن كان جسدا ضائعا ظل يبحث في الأرض عن الأمان، أردتم أنتم منه أن يكون جسدا وألا يكون إنسانا، أتيتم أنتم بالرحيل مهنة له، وحفرتم قبره عندما قررت القبيلة أن تستقر في تلك المدينة.

ومن نصوصه النثرية، يرصد الضوضاء المحيطة به، ومن هذه الاجواء: «زحمة على الطرف الآخر من الطريق/ غيوم تعلو السماء/ بكاء طفل رضيع/ غيرة في قلب محب،/ مزيج خاطئ من الألوان،/ حديث عن مقتل أحدهم،/ ساعة انتظار لموعد قريب،/ موسيقى عالية في ليل هادئ/ أكوام قمامة على شاطئ البحر/ ضباب في الزاوية اليسرى من عيني/ أي منها ضوضاء؟».

كما يقدم خلال الإصدار بعض القصائد الجميلة لكبار الشعراء منتقياً من رصيد الشاعر قاسم حداد هذه الأبيات: «ماذا سيبقى/ عندما تنهال جمرتنا الخفية في هواء الليل/ ماذا يختفي فينا/ وهذا ماؤنا الدموي يستعصي/ وطير الروح/ ينتظر احتمالا واحدا للموت/ كنا نغني حول غربتنا الوحيدة/ كالعذارى في انتحاب الليل/ كنا نترك النسيان يأخذنا على مهل/ لئلا نفقد السلوى/ لم نعرف مكانا آمنا للحب».

لِمَ يضحكون

في أحد المقاهي كنت مع الأصدقاء، سرح فكري بعيداً عما كانوا يقولون، أمسكت كأسا من الماء في يدي لأشرب، وفجأة على سطح الماء صورتي بدت مشوشة، وألوان وجهي بدت خافتة، وملامحي بدت غريبة، أنفي يبدو عريضا، وعيناي أكثر اتساعاً، وفمي لم يظهر في الصورة، ربما لم يكفه المجال للانعكاس، أو ربما تاه مع زوبعات الحركة المستمرة التي تحدث وأنا أحرك الكأس، أطلت النظر هناك داخل الكأس إلى أين ستذهب انعكاساتي؟ ومتى ستستقر؟ وهل سأعود ثانية كما كنت؟ أعود أنا الذي أعرفني أو ستظل ملامحي مشوشة، ولكن كلما زادت الدوائر في الماء ازداد التشويش، وبدأت ملامحي تذهب شيئاً فشيئاً، إلى أن وجدت كلا منها قد ذهب في طريق مختلف، تشتّت، نعم تشتت وجهي! عيناي أخذت تسبح في إحدى الموجات منفردة تبحث عن جمال المنظر، وأنفي هناك بعيداً عنها يحاول أن يشتم رائحة الماء، تعبت وأنا أتأمله وهو يشتم ويدقق دون جدوى، لا رائحة، وفجأة وقع نظري على خصلات من شعري تسبح في الفضاء، جافة داخل بحيرة، تسبح وتسبح ولم تبتل، ياله من شعور غريب، بدأت ابتسم وأضحك، وإذا بفهمي أخيرا في الصورة يتعرج يتلوى وكأنه يحاول أن يقول شيئاً، ولا يستطيع، حاولت الإصغاء ولم أسمع إلا همهمات لا تعني شيئاً، صرخات بل همهمات، صوت فمي الغارق شظايا عالية لقهقهات، ألتفت حولي وإذا بهم جميعاً يضحكون فرويت عطشي وكانوا جميعهم إلي ينظرون، فسألتهم لم كنتم تضحكون ؟ فلم يجيبوا ..