معقّدة وساحرة، وقد تكون مؤلمة هي علاقة الآباء بالأبناء. فكلنا نطمح لرؤية أبنائنا في هيئة حسنة، وسلوك مثالي، ونجاح وتفوق لافتين، لكننا نتناسى في معظم الأحيان، أن لهم الحق في اختيار شكل هيئاتهم ونمط سلوكهم، ولو جاء ذلك مخالفاً لقناعاتنا. فمن جميل الحكمة ما يُنسب إلى الإمام علي، كرّم الله وجهه، قوله: "لا تربوا أولادكم كما رباكم آباؤكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم". والتأمل في هذه الحكمة يُظهر للوهلة الأولى بداهتها وصحتها وحكمتها، لكن التجربة تقول بصعوبات جمة حين يأتي الآباء لتطبيقها!

Ad

كلنا يتحرك وفق قناعاته، ووفق عقده، ومخطئ من يعتقد أنه خال من العقد، ولذا فإن كلا منا يرى الأمور بمنظاره الخاص، وهو بالضرورة مختلف عما يراه الآخرون، ومختلف أيضاً عن قناعة وإرادة أبناء يعيشون نبض لحظة إنسانية راهنة، متغيرة وسريعة ولا يكاد الواحد فينا يكون قادرا على الإمساك بها! لذا فإن الخلاف بين الآباء والأبناء أصبح أحد سمات العصر، وأصبح يشكل هاجسا مقلقا لأسر كثيرة في مختلف دول العالم.

لا أحد ينادي بإطلاق حرية الأبناء كما يهون، دون رقيب أو حسيب، لكني ضد الرقابة اللصيقة، الرقابة الأسرية الخانقة التي تريد تقييد حرية الابن أو الابنة، لذا ليس من نقطة يلتقي فيها الآباء الأبناء إلا المنتصف. منتصف قناعة الآباء، ومنتصف رضا الأبناء!

أبناؤنا يعيشون نبض اللحظة الإنسانية الراهنة، وهم ليسوا ببعيدين أبداً عما يحدث في طول العالم وعرضه من صرعات مجنونة، في شبكات التواصل الاجتماعي والفن والموسيقى والسينما والرياضة والمأكل والملبس، ولذا يتوجب علينا أن نتفهم صلتهم وتأثرهم بالعالم من جهة، ونتفهم نفسياتهم ومعاناتهم وإراداتهم من جهة ثانية. وإذا ما كانت البنت أو الولد، مجدّا في مدرسته، وقادرا على أن يتصرف بما هو مقبول اجتماعياً، فإن محاولة الضغط عليه، ليفعل كل ما يعتقد الوالدان أنه صحيح، تُعدّ ضغطاً قاسياً ليس في صالحه ولا صالح الأسرة.

إن تأكيد الحوار المفتوح والصريح، والاستماع إلى رأي البنت أو الولد أمران ضروريان وصحيان، وإذا ما استطاعت أسرة خلق جو أسري هادئ يسوده الاحترام المتبادل والتفاؤل بين أفرادها، فإنها بذلك تحقق أول درجات الراحة والسكينة في البيت، وتمنح الآباء سعادة هم في منتهى الحاجة إليها، وتقدم للأبناء اتزاناً نفسياً وعاطفياً هم في أمس الحاجة إليه! إن غاية كل أم وأب هو رؤية السعادة في أعين أبنائهم، لكن غاية الأبناء هي العيش وفق قناعاتهم وأهوائهم، ووفق ما تتطلبه اللحظة الإنسانية العابرة، وكم هي شاسعة المسافة بين الغايتين!

أنا تاجر وصاحب شركات، وأبنائي يجب أن يأتوا ليحلوا محلي! أنا أعشق القراءة، ولذا فإن أولادي لابدَّ أن يكونوا مثلي! أنا رياضي طوال عمري، ولا يمكن لأبنائي أن تكون أجسامهم مريضة! أنا عاشقة للهدوء وأتمنى من أبنائي أن يكونوا مثلي! أنا تخرجت في الجامعة بمعدل امتياز، ووفرت لأبنائي كل سبل النجاح، ويتحتم عليهم أن يكونوا في المراكز الأولى المتقدمة! أنا أم مثالية في ترتيب البيت والنظافة ومعاملة الخدم، وبناتي يجب أن يكن نسخة مني! وأنا، وأنا، وأنا... كل هذه الجمل لا تعدو أن تكون مصدر إزعاج وخلاف وألم للآباء والأمهات، لأنها تقول صراحة إنهم يريدون لأبنائهم أن يكونوا نسخاً منهم، ولا تحسب أي حساب لمزاج وإرادة وطبع الآخر.

جميل أن يأتي الابن وتكون الابنة كما يتمنى الأهل، ولكن هذه هي الحالة الأقل حدوثاً، ففي راهن أيامنا، ليس أمام الأهل إلا التفاهم الهادئ المعجون بالحب سبيلاً لسعادتهم وسعادة أبنائهم!