تابعت من خلال "تويتر" على هامش معرض الكتاب الحالي، انزعاجاً من ظهور موجة من الكتب الشبابية التي يقال إنها روايات، وذلك إما لأنها كُتِبت بلغة ركيكة مليئة بالأخطاء اللغوية أو بعامية صلعاء، وإما لأنها حوت الكثير من العبارات غير اللائقة، أو الساقطة على حد تعبيرهم، ولعل ما أثار هذه الضجة أكثر هو أن من اقترفوا هذه الكتب وجدوا شيئاً من تسليط الأضواء والتفاف المراهقين حولهم. أتعاطف بلا تردد مع فكرة أن يغار بعضنا على الثقافة والأدب الجيد، وعلى صفاء ونقاء اللغة، وعلى الكتب الجديرة بالاقتناء والقراءة، وأن يخاف ربما على أخلاق النشء، خصوصاً أن أغلب من جذبتهم هذه الكتب من المراهقين وصغار السن، فمن الجميل أن يحمل بعضنا مثل هذه الهموم الأخلاقية والثقافية، لكنني في ذات الوقت أرى أن المسألة أهون مما هو مثار لو نحن قمنا بتفكيكها.

Ad

في البداية لابد من وضع بعض الحقائق على الطاولة. هذه الكتب ليست أدباً، فللأدب أصول، وللروايات معايير يعرفها أهل الفن ويستطعمها ذواقته، وقصارى شأن هذه الكتب أنها مجرد شخبطات معدومة الهوية، قام مقترفوها بتفريغ شحناتهم النفسية عبرها، كما يفعل عشرات الملايين من البشر يومياً عبر شبكات التواصل الاجتماعي. الفرق الوحيد أن مستخدمي شبكات التواصل يضطرون إلى الالتزام بالمساحات المقررة برمجياً، في حين أن من اقترفوا هذه الكتب لم يضطروا إلى ذلك.

وأما الشهرة وتسليط الأضواء التي وجدها بعض من اقترفوا هذه الشخبطات فهو بريق طارئ صنعته شبكات التواصل الاجتماعي لا أكثر، ولا أظن أن صحيفة محترمة قد كتبت عن أحد منهم من باب الإشادة، ولا أن جهة ثقافية معتبرة أشارت أو ستشير إليهم بالبنان في يوم من الأيام، ولا أظن لذلك أن عاقلاً يحترم نفسه سيحسدهم على شهرة كهذه، ناهيك عن أننا نعرف أن ليس كل شهرة خير، والدليل أن ليس أكبر من شهرة كثير من السيئين والسيئات في مجالات عديدة من الحياة. وأما مسألة أن هذه الكتابات على اعتلالها قد وجدت من ينشرها، فعلينا أن نتذكر أن كثيراً من الناشرين اليوم، إن لم يكن أغلبهم، مجرد باعة، وكما قال لي أحدهم منذ أيام "وين ما راح السوق بدك تسوق"، أي أن الأمر عندهم في النهاية مجرد تجارة، وهم من لطالما نشروا وباعوا آلاف العناوين من كتب تفسير الأحلام والشعوذات والسحر والخرافات والفضائح وغيرها، ولن يترددوا الآن بأن يضيفوا إليها هذه الكتابات طالما أنهم سيبيعون. وأما مسألة الخوف من تأثيرات ما فيها من محتوى سيئ أخلاقياً على النشء، فهذا قلق نال أكبر من حجمه. النشء اليوم ينهشهم المحتوى السيئ أخلاقياً ليل نهار عبر شبكات "تويتر"، و"واتسب"، و"يوتيوب"، وهي المتصلة بهم طوال الأربع والعشرين ساعة من خلال هواتفهم، وقبلها عبر شبكات التلفاز والفيديو وغيرها، وهي الوسائل الأكثر جاذبية واختراقاً وتأثيراً من وسيلة الكتاب البارد البطيء الحركة بغض النظر عن محتواه.

يا سادتي، إن شراء الكتاب واقتناءه لا يعني بالضرورة قراءته، الناس ما عادت تقرأ ولن تقرأ بسهولة، ولو كان المحتوى "الملتهب" لأي كتاب هو العلاج لأزمة القراءة، لما عانت تلك المجتمعات الغربية التي لا تشكل لها المحتويات "الملتهبة" أي مشكلة من ذات الأزمة. كما أن كثيراً من الروايات الشهيرة والكتاب المشهورين، ولست في وارد ذكرهم، بها الكثير مما يمكن أن يعتبر "ساقطاً" أخلاقياً على ذات المعايير، وما عالج مع ذلك من أزمة القراءة.

أعيدها مجدداً، الناس لا تقرأ والكتب الملتهبة لن تجعلها تقرأ.

إن الخوف على أخلاقيات النشء، لو كان هذا ما يعنينا حقاً، سيحتاج منا إلى تعزيز ثقافي على مستويات عديدة مختلفة، تستند جميعها إلى قاعدة أن الأفكار تواجه بالأفكار، لا بالمنع والرقابة. أعتقد جازماً أن دورنا الحقيقي تجاه هذه الكتب الرديئة ومن اقترفوها أن نتجاهلها ونتجاهلهم، فالاهتمام بها وبهم يوجد لهم قيمة. لنتركهم يواجهون القوانين المنظمة لمثل هذه المسائل، إن كان هنالك مثل هذا، ولننشغل عوضاً عنه بمسألة نشر الثقافة الصحيحة، والإشارة إلى الجيد من الكتب، وإلى الرائعين من الكُتّاب، وإلى المفيد من الأنشطة الثقافية، ونتعهد هذا كله بالرعاية والتسويق والنشر، كما تعهدوا هم كتبهم بالرعاية والتسويق والنشر. المسألة في صميمها مسألة فراغ فكري معرفي ثقافي تتسابق الأطراف على ملئه، فإن لم يملأه الجيد فسيحل محله السيئ، ولهذا علينا ألا نجعل همّنا الأول أو الأوحد مكافحة السيئ، وإنما أن نناضل قبلها لنشر وتسويق الجيد مؤمنين بأنه سيملأ مساحته المقررة، وسيجد طريقه إلى عقول الناس وقلوبهم في النهاية، لأنها سنّة الله التي أجراها في هذا الكون؛ "فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".