يجتمع الدين الإسلامي الحنيف مع بقية الأديان في الدعوة إلى الفضيلة والتمسك بالخلق القويم عند التعامل مع الآخر، ورغم وضوح هذا التوجه، فإن المجتمعات الإسلامية تعج بشخصيات يجتمع فيها التدين مع سوء الخلق تجاه الآخر. قد يكون من غير المجدي الخوض في نقاش عمّا إذا كان التدين يؤثر سلباً أو إيجاباً في السلوك الأخلاقي للأفراد، خصوصاً إن كان الأخير يتأثر بعدد كبير من المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية.

Ad

 ولكن قد يكون من المفيد الإجابة عن سؤال أكثر تحديداً حول الدوافع والخلفيات السيكولوجية والفكرية للنماذج التي يجتمع فيها التدين مع الممارسات اللاأخلاقية. الرد الفوري الذي يأتينا عادة من التيار المحافظ في معرض الإجابة والدفاع عن التدين هو أن هؤلاء الأفراد يفتقرون إلى الفهم الصحيح للدين. ورغم أن هذا التبرير صائب في مضمونه العام فإنه لا يعطي تشخيصاً كافياً لأسباب التناقض، ولمحاولة فهم أعمق لهذا التناقض الذي يجتمع فيه التدين مع السلوك اللا أخلاقي يمكننا تحديد أربعة نماذج شائعة هي كالآتي:

1- الأصولي الوصولي: قد يكون هذا النموذج هو الأكثر شيوعاً في المجتمعات الإسلامية خصوصاً المحافظة منها. وهو يعكس عموماً تلك الحالات التي يكون فيها التدين مدفوعاً باعتبارات شخصية بدلاً من محض القناعة الذاتية. تتفاوت هذه الاعتبارات والدوافع ابتداء من السعي إلى تحقيق القبول الأسري والاحترام الاجتماعي وانتهاء إلى هدف تحقيق مكاسب اقتصادية مثل الحصول على عمل مناسب أو تسهيل البيع والتجارة، ويحرص المتدين في هذا النموذج على إبراز تدينه للملأ من خلال تمسكه بالمظهر الإسلامي والتردد على أماكن العبادة العامة وانتقاد مسلك ودرجة تدين الآخرين كإشارة ضمنية إلى عمق تدينه. ومن أجل تثبيت سمعته كمتدين، فهو أيضاً يظهر الالتزام بالقواعد الأخلاقية القويمة عندما يكون أمام نواظر الآخرين، ولكنه وفي ظل غياب أعين الرقيب، أو عندما يكون خارج مجتمعه المحافظ، فإنه ينتهج مسلكاً مختلفاً لا تحكمه نفس القواعد الأخلاقية. هذا النموذج شائع في كل مكان وزمان وهو كغيره من الظواهر الاجتماعية تحكمه قوانين العرض والطلب. ففي جانب العرض نجد أن هذا النموذج يعكس سلوكاً سَيكوباتياً لأفراد يتميزون بعدم اكتمال النضج السيكولوجي نتيجة لجملة من العوامل الشخصية والثقافية والاجتماعية. وفي جانب الطلب يبرز هذا النموذج بشكل لافت في المجتمعات المحافظة التي تسبغ هالة من التبجيل والاحترام على مظاهر التدين وتمنح امتيازات اجتماعية واقتصادية للمتدينين.

 وفي هذا الشأن أتذكر جيداً إعجابي الشديد خلال سنوات الدراسة في الولايات المتحدة بالمسلك الأخلاقي الحميد للمتدينين العرب الأميركيين الذين عاصرتهم، خصوصاً أولئك الذين كانوا يوجدون في مناطق لا تضم كثافة عالية من الأقليات المسلمة.

2- الملتزم البراغماتي: هذا النموذج يفكر بأسلوب "عملي" يكون التدين فيه نابعاً من الرغبة في إيجاد توازن بين الآثام والفضائل، وهو بذلك لا يختلف كثيراً عن نهج مدير مالي في شركة تجارية يسعى إلى تعويض النقص في أحد الأبواب من خلال تضخيم باب آخر. هذا المتدين يؤمن بفرضية التبادلية أو الإحلال بين حسن المعاملة من جهة وأداء العبادات من جهة أخرى، وعادة ما يأتي التدين هنا كرد فعل احترازي لموازنة ممارسات لا أخلاقية قائمة أو مرتقبة، كما هي الحال في شأن بائع السيارات المستعملة الذي يمارس الغش بشكل يومي، ثم يذهب إلى العمرة كل شهر كنوع من التكفير عن الذنب.  وقد ساهم نمط الخطاب الديني التقليدي السائد في رواج هذا النموذج، وذلك بسبب اللجوء إلى نشر الدعوة عن طريق الترهيب وغرس سيكولوجية الخوف والعقاب بدلاً من تنمية وغرس القيم الروحانية لدى المتدينين وجعل التدين والأخلاق غاية في حد ذاتها وليس وسيلة.

3- المتدين المونوكروم: هذا المتدين يرى كل شيء إما أبيض أو أسود، وهو يعيش في عالم الحلال والحرام كما يرسمه رجال الدين وعلماء الشريعة، وهو لا يستطيع أو لا يريد أن يفهم المقاصد الأخلاقية للتدين. فالربا حرام بينما الاستغلال في التجارة والعمل، وإن كان فاحشاً، مقبول وغير محرم شرعاً، والاختلاط بين الجنسين خطيئة، أما الممارسات الشاذة فهي في أسوأ الأحوال لا ترقى إلى مصاف المحرمات والكبائر. وعندما تعني السرقة الاستيلاء على أموال وغلال وماشية الآخر فهي تعتبر جرماً وإثماً كبيراً يستلزم تطبيق حد الشريعة، أما عندما تكون سرقة للمال العام أو سرقة لحقوق الملكية الفكرية للآخر فهي أمر اعتيادي مقبول. وبسبب غياب الرابط الذهني بين التحريم والمقصد الأخلاقي، فقد تولد انطباع عام في عالم اليوم بأن المجتمع الإسلامي المحافظ منسلخ عن القيم الإنسانية المعاصرة مثل الرفق بالحيوان وحماية البيئة ونبذ العنصرية والعبودية ومساواة المرأة بالرجل.

4- الإسلامي الانتقائي: في حين نجد أن النموذج السابق ينطوي على انتقائية أخلاقية بحيث يتم تجاهل بعض القيم واعتبارها أخلاقيات خارجة عن نطاق التغطية، نجد المتدين هنا يطبق مبدأ الانتقائية في التعامل مع الآخرين. فهو يلتزم بالسلوك الأخلاقي الحميد وحسن التعامل تجاه فئة محددة كأفراد العشيرة أو المذهب أو من يعتبرهم أعضاء الفرقة الناجية، أما بالنسبة إلى الأفراد الآخرين الذين يقعون خارج حدود التغطية فهو حِلٌ من هذا الالتزام الأخلاقي، وقد يتفاوت هذا السلوك تجاه الآخرين بدءاً من اللامبالاة وغياب التعاطف الإنساني إلى السلوكيات العدوانية المتطرفة كالتي نشهدها اليوم في ممارسات المجموعات الإرهابية.

استعرضنا فيما سبق بعض نماذج الأفراد في المجتمعات الإسلامية حيث لا يكون التدين لديهم رديفاً للأخلاق وحسن التعامل مع الآخر، وهذا الاستعراض وإن لم يكن شاملاً إلا أنه يمثل محاولة متواضعة لوضع بعض النقاط على الحروف وفهم أسباب الفجوة الأخلاقية التي نشهدها اليوم في عالمنا الإسلامي.